في التاسع من نوفمبر عام1989 تجمع الألاف من الشعب الألماني أمام جدار برلين الشهير الذي ظل لمدة28 عاما حاجزا يفصل بين الشرق والغرب, في إنتفاضة هي الأكبر في تاريخ ألمانيا. حينها إنهال الجمهور المتحمس بالمطارق والشواكيش, بل وبعض النساء استعملن حقائبهن اليدوية في القرع علي حجارة الجدار المكروه وأسقطوه, تعانق المحتفلون ورقصوا وتبادلوا الأنخاب, وبعضهم حمل قطعة حجر ذكري ربما ليريها لأبنائه وأحفاده, لم يكن سقوط هذا الجدار الذي سماه الألمان الغربيون جدار العار وأطلق عليه الألمان الشرقيون تسمية جدار الحماية ضد الفاشية مجرد سقوط حائط مصطنع أو إنهيار بناء, وإنما نهاية الحرب الباردة وسقوط الإتحاد السوفيتي, فحينها انقلبت الدنيا رأسا علي عقب ولم يعد العالم كما كان. الأن وبعد مرور أكثر من24 عاما علي هذا الحدث وقف الألمان يحتجون مجددا, ليس علي بناء جدار هذه المرة بل علي محاولات الشرطة الألمانية هدم الجزء المتبقي من الجدار لصالح عدد من المصارف والشركات العقارية التي ترغب في شراء الأراضي والعقارات المتروكة من مخلفات نتائج الحرب العالمية الثانية بأسعار زهيدة جدا, بحجة إقامة الأبنية والعقارات عليها, وبالتالي تحويلها إلي مناطق حيوية وحديثة, مما أجج مشاعر الغضب لدي قطاع كبير من الشعب الألماني, معتبرين أن هذا الجدار أكبر تأريخ لثورة أبهرت العالم ومحمية تحكي تاريخ المدينة زمن الإنقسام بين شرقية وغربية, وإذا تم السماح بتدميره الآن فلن يجد الألمان شيئا يعبر عن ماضيهم. ولكن هل هذا هو السبب الحقيقي للإحتجاج, أم أنه الحنين إلي تلك الأيام القديمة التي ربما لم تكن جميلة ولكنها علي الأقل كانت أكثر بساطة؟ فبعد سقوط الجدار إنتشرت ثقافة ما يسمي ب صناعة الحنين, وكثرت البرامج التليفزيونية والأفلام والكتب التي راحت تمجد تلك الفترة وكأنها كانت فترة ذهبية, وربما كان منبع ذلك شعور البعض بالإحباط لما حدث بعد الوحدة من تطورات. كثيرون كانوا يتمنون الاحتفاظ بالاشتراكية ولكن بدون ديكتاتورية, وهو ما أطلقت عليه الكاتبة الألمانية( الشرقية) كريستا فولف' الاشتراكية ذات الوجه الإنساني'. أيا كانت الأسباب يبدو أن الألمان لن يسمحوا بهدم ماتبقي من الجدار الذي تحول بمرور السنين من جدار سييء السمعة إلي عمل فني رائع, وفقد منظره المهيب الذي يبث الرعب في النفوس وأصبح مزارا سياحيا جذابا يضم بين أركانه معرضا يزخر بصور تاريخية تبين كيف تم سد بوابة' براندنبورج' بالأسلاك الشائكة في أغسطس1961 وكيف احتج سكان برلين ضد بناء الجدار, وكيف كان الأقارب والمعارف يمدون أيديهم لبعضهم بعضا فوق الحواجز والمتاريس, بينما يعلو اليأس علي وجوههم. الجدار أيضا حمل بين أحجاره ذكريات كثيرة, وشهد علي الكثير من قصص الحب التي إنتهت ببنائه, ولم يمض وقت طويل علي تسلم جون كيندي سدة الحكم في الولاياتالمتحدة عام1963, حتي لفظ علي مشارف الجدار مقولته المشهورة' كل المواطنين الأحرار في العالم برلينيون', كما أن أكثر من136 شخصا لقوا حتفهم أثناء محاولتهم عبور الأسلاك الشائكة. وتعبر الرسومات أو الجرافيتي التي تزين الجدار عن النشوة وروح الثورة التي امتازت بها فترة سقوط الجدار وانتهاء الحرب الباردة, ففي إحدي الصور تشرق الشمس علي الأسلاك الشائكة, وفي صورة أخري تظهر حمامة السلام وهي تمسك بأغلال أحد المعتقلين. ونالت بعض الصور شهرة عالمية مثل لوحة تظهر سيارة ترابنت المصنوعة في ألمانياالشرقية تحطم الجدار, ولوحة للرسام الروسي دميتري فروبيل بعنوان' قبلة اخوية' التي يظهر فيها الرئيس الألماني الشرقي إريك هونيكر وهو يعانق نظيره السوفيتي ليونيد بريجنيف, كلها لوحات فنية ستتحول في خطوتها الأولي من هذا المشروع إلي مبني من12 طابقا لاستقبال24 منزلا سكنيا مع ملحقات هذا المبني من مقاه ونواد ليلية! وليس هناك مكان آخر تزدهر فيه تجارة الهدايا التذكارية المتعلقة بجدار برلين مثل المنطقة المحيطة بنقطة تفتيش تشارلي, حيث يجد السائح بطاقات بريدية تحتوي علي صور لأجزاء من الجدار, وشوكولاتة علي شكل جدار, وبطاقات بريدية ذات موضوعات تتعلق بهذا السور التاريخي, وكذلك سلع خاصة بالحرب الباردة التي تتنوع ما بين أقنعة غاز وخوذات فولاذية ولوحات سيارات تحمل شعار جمهورية ألمانيا الديمقراطية وجاكيتات الجنود, كل ذلك يدل علي أن تاريخ جدار برلين لايزال يتمتع بسحر فريد يأسر الألباب.