يواجه ماريو مونتي رئيس وزراء ايطاليا الجديد المهمة الأخطر من نوعها.. و هي انقاذ ثامن أكبر قوي اقتصادية في العالم من الافلاس.. الكابوس الذي تخشاه الولاياتالمتحدة و الاتحاد الأوروبي, ربما قبل الايطاليين أنفسهم. ووسط نسبة تفاؤل مرتفعة شعبيا, تمكن مونتي-الذي شبهته مجلة' ايكونوميست' ذات مرة بأنه' صدام حسين' في مجال الأعمال- من اجتياز أول حجر عثرة. و نجح في تشكيل حكومة ذات طابع تكنوقراطي تنال دعم غالبية الأحزاب في البرلمان المصاب ب'الشلل' حسبما وصفه رئيس الوزراء المستقيل سيلفيو بيرلسكوني ذات مرة. لكن رغم تأييد نحو72% من الايطاليين في أحدث استطلاعات الرأي- لمونتي وتوقعهم نجاحه في الخروج بالبلاد من الأزمة المالية الراهنة.. لايزال التهديد الأبرز أمام انجاز المهمة هو حالة التناحر الحزبي داخل البرلمان.. وهي ذات السكين التي ذبحت بيرلسكوني من قبل. ففي ظل روح مسيطرة من الثأر الحزبي, ربط حزب شعب الحرية بزعامة بيرلسكوني بين تأييده للحكومة الجديدة و بين التزامها بعدة شروط في مقدمتها: التزامها ببرنامج لا يتجاوز محتويات خطاب برلسكوني أمام قادة الاتحاد الأوروبي في26 أكتوبر الماضي ببروكسل, و الذي تعهد فيه برفع سن التقاعد الي67 عاما و فصل عدد كبير من العاملين من أجل تقليص الجهاز الاداري للدولة.. وهي الاجراءات التي سارع البرلمان في اقرارها يوم السبت الماضي( فيما يسمي بقانون الاستقرار المالي), رغم السخط الشعبي, من أجل التعجيل باستقالة حكومة بيرلسكوني و تجنب خيار سحب الثقة من الحكومة وما يتبعه من انتخابات مبكرة لم يستعد لها أحد. و اشترط حزب شعب الحرية قصر المدي الزمني للحكومة الجديدة الي حين تنفيذ الاجراءات الاقتصادية التي جاءت في الخطاب المذكور. كما وضع بيرلسكوني قائمة من المطالب الأخري التي شهدت تجاذبا حتي اللحظة الأخيرة قبل الاعلان النهائي عن تشكيل الحكومة, و تتمثل في: تعيين جياني ليتا سكرتير عام الحكومة المستقيلة وزيرا ضمن التشكيل الجديد ليكون ممثلا لتيار يمين الوسط, و اما أن يمتنع مونتي عن اختيار أي شخصية أخري ذات صلات سياسية مثل جوليانو أماتو عضو الحزب الديمقراطي اليساري الذي تردد اسمه كمرشح محتمل لوزارة الخارجية. لكن مونتي يبدو عازما علي السير في اتجاه آخر, فمن ناحية أعلن عن سعيه لاتخاذ الاجراءات الاقتصادية اللازمة ولكن مع تعزيز مبدأ العدالة الاجتماعية. كما أكد أن حكومته المزمعة ستتولي مقاليد السلطة حتي موعد الانتخابات العامة المقررة في ربيع.2013 وامتد التناقض الي مسألة تشكيل الحكومة, حيث ثارت خلافات حزبية بشأن انضمام سياسيين الي الحكومة الجديدة التي تسعي لضمان الدعم البرلماني, الا أن مونتي انتهي الي عدم ضم أي شخصيات سياسية بالحكومة لتكون ذات طابع تكنوقراطي خالص. وقد تنبأت صحيفة كورييرا ديلا سيرا أن يكون ذلك قد أثار ضيق صدر حزبي شعب الحرية و الديمقراطي. وبالرغم من نجاح مونتي في نيل موافقة أكبر حزبين بالبرلمان شعب الحرية( يمين) والديمقراطي(يسار)علي التشكيل النهائي لحكومته, حسبما أفادت البيانات الرسمية الأخيرة.. فلا يمكن تجاهل التهديدات التي صدرت من شعب الحرية خلال مشاورات مونتي, حيث نقلت وسائل الاعلام عن بيرلسكوني قوله أن بامكانه نزع' قابس الكهرباء' عن الحكومة الجديدة وقتما شاء.. فضلا عن تصريحات أخري صدرت عن حزبه تلوح بالدعوة الي انتخابات مبكرة حال عدم استجابة مونتي لمطالب الحزب. وتؤكد أن شعب الحرية( أكبر حزب بالبرلمان) يدعم الحكومة الجديدة لكن دون أن يعطيها' كارت بلانش' لتفعل ما تشاء. وصعد حزب رابطة الشمال اليميني شريك بيرلسكوني في الحكومة المستقيلة والذي فض التحالف معه اثر التطورات الأخيرة- هجماته الضارية, بعدما أعلن رفضه للحكومة الوطنية المرتقبة. وعبر روبرتو ماروني القيادي بالحزب و وزير الداخلية المستقيل, عن خشيته من أن تقوم السلطة التنفيذية القادمة بقيادة ماريو مونتي ببيع مؤسسات اقتصادية قومية لمشترين فرنسيين وألمان. ونقلت وكالة أنباء آكي, تحذيره من أن' يتم بيع مصارف ايطاليا ومؤسسات ايني( عملاق الطاقة), واينيل( مؤسسة الكهرباء والماء), وفينميكانيكا( المختصة في الصناعات الدفاعية والفضائية) بأثمان بخسة', مؤكدا أنه لا يود أن يري الفرنسيين وقد تحكموا بشبكات المياه في ايطاليا. وتبدو المواقف الحزبية ازاء الحكومة الجديدة مرهونة بالمكاسب التي ترمي لتحقيقها في الانتخابات العامة المقبلة, أكثر من اكتراثها بحالة البلاد المتدهورة.. وقد اتضح ذلك بجلاء من خلال مشاورات تشكيل الحكومة حيث شهدت انحراف السياسيين من المعارضين لحكومة بيرلسكوني سابقا عن مطالبهم بتشكيل حكومة تكنوقراط خالصة, و حرصوا علي دفع ممثلين لهم بالحكومة الجديدة لاستثمار جهود مونتي لصالحهم, الا أن مونتي قاوم ذلك بشدة ليبرهن أن الكلمة العليا ستكون له في الحكومة الجديدة. وأمام بوادر توجه الحكومة الجديدة اليساري, أعلن الحزب الديمقراطي عن تأييده الكامل لها, مما جعل النائب ايتالو بوكينو- من القطب الثالث' يمين وسط'- يطلق تصريحا أثار دويا, حيث أكد أنه لا يستبعد قيام تحالفا بين مونتي و الحزب الديمقراطي ليكون مرشحهم لمنصب رئيس الوزراء في الانتخابات المقبلة.. و دفع ذلك' شعب الحرية' الي الرد بأن' ظهور الحكومة الوطنية أصبح في خطر'.. في هذا المناخ يأتي ميلاد حكومة مونتي لتواجه أكبر أزمة اقتصادية تمر بها ايطاليا منذ20 عاما.. وبالرغم من تفاؤل الكثيرين بقدرة ال'سوبر ماريو' حسبما تصفه وسائل الاعلام علي معالجة توأمي الأزمة الاقتصادية' جمود النمو و جبال الديون السيادية, فان حالة التربص السياسي قد تكون أشد فتكا بالبلاد. لكن ما من شك أن رحم تلك الأزمة, يحمل ميلاد جمهورية ثالثة وأبطال جدد في وقت سأم فيه الايطاليين من الساسة الذين يتخذونها حرفة وتغيب عنهم مبادئ العمل العام.