في الوقت الذي تضع فيه وزارة الثقافة خطة للعمل الثقافي, تجتمع في القاهرة والأقاليم أعداد من المثقفين من جميع الاتجاهات والأعمار لوضع تصورات جديدة للثقافة المصرية, تختلف عما كانت عليه قبل ثورة يناير, وتتلاءم مع الظروف والتطلعات الراهنة للشعب التي لم يعد من الممكن تجاهلها, كما كان يحدث في الماضي, ومع أن الغاية واحدة, أو يجب أن تكون واحدة بين الوزارة والمثقفين, فمما يؤسف له أن كلا منهما يمضي بمعزل عن الآخر, وهو ما يجب ألا نقع فيه بأي حال من الأحوال, لأنه من بعد الخامس والعشرين من يناير والحادي عشر من فبراير لم يعد هناك كما كان من قبل مثل هذا الفصل أو الانقسام الذي عانت منه مصر كلها, وعاني منه الكتاب في المحل الأول عندما كانت الإدارة بما فيها وزارة الثقافة تقف في جانب, مثقلة بالعلل والأخطاء وعلي الجانب المقابل يقف الشعب والمثقفون الذين ما انشأت الإدارة ووزارة الثقافة إلا من أجلهم, بعد هذين التاريخين الخالدين 25 يناير و11 فبراير توحدت غايات الجانبين, وهي الغايات التي ارتفعت أولويتها في ميدان التحرير لتحل محل السياسة المشينة للنظام السابق الذي طويت صفحته إلي غير رجعة, من أوائل هذه التجمعات التي تشكلت بعد شهور قليلة من عمر الثورة لتفعيل دور الثقافة والمثقفين, تجمع عدد من الأدباء والشعراء والفنانين والمسرحيين لوضع دستور ثقافي من أربعة أبواب يحدد الباب الأول منه الهوية المصرية السمحة الخالية من التعصب, التي صاغتها الحضارات والثقافات القومية والأجنبية التي تعاقبت علي حياتنا وتفاعلت معها وأثرت فيها, ويتناول الباب الثاني من هذا الدستور حرية الإبداع والمبدعين التي لا تمس من قريب أو بعيد, ذلك أن الإبداع مرادف للحرية, والحرية مرادفة للمسئولية التي تعرف جيدا كيف تفرق في كل الشئون بين الأصيل والزائف, وبين الحق والباطل وبين الصالح والطالح, وقبل هذا وبعده بين التخاذل والطموح أو بين الاصلاح والثورة. ويتحدث الباب الثالث عن دور المثقفين في نقد الأنشطة الثقافية المختلفة سواء كانت هذه الأنشطة صادرة عن وزارة الثقافة, فيما يعرف بالصناعة الثقيلة أو كانت صادرة عن المثقفين كأفراد وجماعات. وبحكم أن أنشطة مؤسسات الدولة ملك خالص للشعب, وليست منحة من أحد, فلا معدي عن أن تؤدي رسالتها السامية في غرس الوعي العصري بالحياة والعالم وفي دعم كل الجهود الحرة للمثقفين بالمال وغيره, لتمكينها من الالتزام بالمعايير الرفيعة في أداء رسالتها التي تحتاج عادة إلي تمويل سخي لا إلي مسك اليد, وإذا كان لابد من وصاية جهة علي جهة, فلن تكون قط وصاية وزارة الثقافة علي المثقفين, ولكن وصاية المثقفين المعبرين عن شعبهم علي كل ماعداها في المجال الثقافي, دون أن تتعارض هذه الوصاية مع مبادئ الديمقراطية والتسامح التي تستظل بها كل الفعاليات في دولة العلم والمعرفة, كذلك إذا كان لأحد أن ينفرد بالبيان والحكم في هذا الشأن أو ذاك من شئون الثقافة فلن يكون أيضا غير هؤلاء المثقفين. ومن هذه التجمعات أيضا التي تشكلت ائتلاف المثقفين الأحرار الذي تكون في مسرح الهناجر بدار الأوبرا في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر ردا علي كل السياسات الثقافية المعادية لها والمتطاولة علي المثقفين التي أدت إلي أن تفقد الثقافة في العقود الثلاثة الأخيرة صلاحيتها. ولتحقيق هذا الهدف يتعين استعادة كل من غابوا, وأعرضوا عن وزارة الثقافة أو رفضوا جوائزها أو أقصوا من الساحة لأنهم لم ينصاعوا لأحد, أو لم يقبلوا أن يحشروا في الحظائر كالأغنام. هناك أيضا ائتلاف الثقافة المستقلة الذي تكون مبكرا في أواخر فبراير من عدد كبير من المؤسسات الثقافية والمجموعات الفنية الذي وجه رسالة للمجلس العسكري لتنفيذ مطالب الثورة ويقيم أنشطته الثقافية والفنية في القاهرة والإسكندرية وعدد من المدن الأخري مثل بورسعيد وأسوان والواحات الخارجة. وفي تاريخ لاحق تكونت حركة نحن هنا التي تتألف من أدباء المحافظات والأقاليم الذين عانوا من التهميش الثقافي والسياسي, ومن تدهور الأوضاع وآن أن يكون لهم بعد الثورة حقوقهم العادلة ودورهم في كل المجالات, إن الأوضاع الجائرة التي سادت حياتنا قبل الثورة, وانطفأت فيها أنوار المسارح والسينما والكتاب والفن, لايزال الكثير منها مع الأسف كما هو, ولايزال فلول الحقبة الماضية في أماكنهم, إن لم يكونوا في أماكن أفضل مما كانوا فيه, يتربصون بالثورة والثوار وينشرون أكاذيبهم في وضح النهار, سعيا لاستعادة ما فقدوه, وليس هذا هو الخطر الداهم الوحيد الذي يحذر منه الدستور الثقافي وائتلاف المثقفين الأحرار, وائتلاف الثقافة المستقلة, ونحن هنا فهناك أخطار أخري عديدة, تهدد كل المكتسبات والجهود التي تحققت, أو علي وشك أن تتحقق وفي مقدمة هذه الأخطار الطبقية والشمولية والسلفية والتعصب ومحاكمة الضحية لا الجلاد, التي تحاول بالفعل والقول قطع الطريق علي الثورة, وفرض سيطرتها عليها وعلي كل من يدافع عنها وعن الديمقراطية والعدالة والكرامة, دون أن تجد من يتصدي لها بالشكل الحاسم ويكشف مستورها غير هذه الأصوات الخافتة للمثقفين الذين يدعمون بصدقهم واخلاصهم الثورة المصرية والثقافة الإنسانية.