من المتبجح الذي لا يجزع من فكرة الكتابة عن عمل تناوله جاك ديريدا؟. أنا. عمل الشاعرة والسينمائية المصرية صفاء فتحي الذي ترجمته بنفسها بعد كتابته بالفرنسية إلي العربية ليصدر عن المركز القومي للترجمة العام الماضي " أوردالي " هو عمل مذهل بجماله وأسئلته، باقتراحه اللغوي الخيالي وتواشج حالاته الغيمية من النهش وبالمقابل الانطحان والعذاب الغرائبي وأوقاتا الطقوسي الملامح- إذ تعيد المأساة الإنسانية قول نفسها كل مرة بألم يبدو جديدًا كلما تفتق رغم كونه أبديًا. أراها مسرحية متطوحة الطموح. لماذا؟. لأن مؤلفتها تبدو كأنما تريد قول كل شيء. وهي تعلم ( و تقر بالصفحة الأخيرة ) مدي استحالة هذا. تم تقديم قراءة مسرحية للعمل بالهناجر بمصر العام الماضي.. وللحق هي تُظلَم بأية كتابة ذ فقط ولو كانت لديريدا، لكن نعرف أنها عرضت في فرنسا. تأخذك هذه الأوردالي إلي " أوردالي " ( ك ) الخاصة لا بد. هي موحية كما استشعرت وكما وجدت ديريدا يقول- باسمٍ " نسائي " فكل من سيري الاسم لو كان يملك أقل دراية باللغات الإندو أوروبية سيعرف كم توحي أوردالي بصوتيات بعض أسماء النساء في اللغة الهندية. ستأخذنا فتحي من قلوبنا إلي العمق في طيات نتف الأفكار وهدير الحالات، وشذرات المعلومة التاريخية. فكرة الزمن هنا دائمة الطنين، دائمة القسوة وإلا لماذا تنظر شخصيات لنفسها في المرآة فتري صورتها في الشباب؟ ثم فكرة قص الحكايات وفكرة " المحاكمة " و فكرة الحيوان كلمات، و رغبة التحرر من اللغة لأن لديها طموحا عاريًا لخلق لغة تقول ما لم تستطعه لغاتنا أو لغتها هي تأتينا بسخرية وعدمية لا تجرف التألم بل تمر عبر روح ورؤية نسوانية تملك التياعا ملحميا أكد لي مجددا ( و"مجددا" اسم إحدي الشخصيات هنا باستيحاء ديكارتي ) كم أن الملحمية أنثي لو اخترنا تصديق الصوت المقموع تاريخيا بقرارات القسوة علي المرأة بصورة أكبر من رفيقها الرجل. فتحي تستطيع أن تفعل باللغة الفرنسية ما تريد فيما رآه ديريدا فضل "المهاجرين ".هل أكون عنصرية لو قلت: هذا لأنها ليست فرنسية؟. هذه المهاجرة تطرح الرؤي الشرقية التي تدينها بنفسها في محاكمة داخل العمل الذي يتناول في لحظة ما محاكمة قروسطية لراهبة حملت من شخص قد يكون الأسقف أو الإله أو أي أحد بطفل سيتكلم كرضيع ثم تطرح مسائلات لا تقل تعاطفا وسخرية لنماذج نسائية مقدسة إسلاميا وستنجح إبداعيا في محاكمتها الأكبر، في محاكمة أنجزتها لما يبدو تاريخا للقسوة عبر نماذج متخيرة وكذلك للغة حتي ليقول ديريدا " تنطلق اللغة وتبتهج " لأن طموح صفاء كان عرقلة وتوقيف كل ما عطل التعبير وإدانة ما يستحق الإدانة بقسوة مماثلة. لدينا محاكمة جمالية لمحاكمة أدانت الجمال، وتعرية لتاريخ الجنون والعنف علي المرأة فهل يمكن كتابة التاريخ الشخصي أو عرض نتف من تاريخ المرأة عامة دون الانحباس في حالة أسطورية كابوسية؟. النهاية أي الجزء المعنون " مونولوج لواحدة من الشخصيات النسائية " تعكس رغبة في استئناف تلاوة الحكاية من منظور نسوي، لتكون للمرأة كلمة النهاية ( توكيد ثان للملحمية) في سياق مسرحية أخروية استطاعت مؤلفتها توظيف ذكريات طفولة مع لواحق أفكار وألم دائم التخلق ككل أوردالي، وعلي قمة المحن الحب المهزوم السائل عن تحدي الزمن من موت يلتقم كل شيء وكذلك الحرمان من الأمومة هنا. تُذكر أوردالي بطقس " البِشْعة " فطقس اختبار المذنبين في أوروبا العصور الوسطي كان بالجمر واشتراط عدم التضرر البدني. لدينا في المحنة- التاريخ، المحنة-التدخل الاجتماعي في الحب حد المحاكمة وبتر الثديين، المحنة ذ هزيمة الحنان المزمنة واقتلاع السعادة ما لا يمكن أن يصرفنا عن متابعة المعاني الشعرية العائمة في بحر إرعابي ملحمي حين يتغطي جسد أنثي بالدم واللبن علامة لعنة أنوثة مصادرَة محكوم عليها حتي لنصدق ديريدا وهو يشهد للمسرحية " ولكنها أولا وقبل كل شيء جميلة إلي درجة الجنون " !