ربما يجب أن نبدأ من آخر ماوصلت إليه الأمور في ترميم مساجد رشيد، تلك العمليات الممتدة التي زكمت روائح الفساد فيها الأنوف وكان آخر مهازل هذه العمليات هذا التقرير الذي بين أيدينا المؤشر عليه في ديسمبر 2014والذي تتوسل فيه وزارة الآثار للمقاول أن ينقذ مايمكن انقاذه بعد ان تسلمت منه تسليما ابتدائيا ونهائيا مسجد الدمقسيس الأثري المعروف بالمسجد "المعلق" ثم ظهرت كوارث ترميمه وتقول المذكرة " إنه تم معاينة مسجد دومقسيس "المعلق" برشيد وتبين لأعضاء اللجنة الآتي: وجود كسر بالسهم الخشبي أسفل دركاه المدخل الغربي للمسجد وهبوط بأرضية الدركاه أدي إلي وجود شرخ أعلي عقد مدخل الحاصل الغربي بالدور الأرضي للمسجد ما أدي إلي وجود فاصل وكذا فاصل درابزين الزيادة عن حائط المسجد مما ينذر بانهيار هذا القطاع في اي لحظة" وتضيف المذكرة " نعلم انه قد تم استلام جميع أعمال الترميم بالمسجد المذكور ابتدائيا ونهائيا ولكننا نأمل في حسن تعاونكم المعهود معنا نحو سرعة انقاذ مايمكن انقاذه للحفاظ علي أثارنا القديمة والقيمة" وبصرف النظر عن المسميات الصعبة علي القاريء لأجزاء المسجد المذكورة في التقرير، وبصرف النظر عن ان الآثار تريد انقاذ مايمكن انقاذه بعد أن تسلمت المسجد واكتشفت ان هذا الجزء بالكامل سينهار ، وهذا الانهيار ليس بالطبع لأنه كان مطابقا للمواصفات أو ان الاستلام من المقاول كان وفقا لأي معايير، المقاول الشهير صاحب الصولات والجولات في مجال الترميم المشبوه والمستخلصات الفلكية والذي تأمل الآثار في حسن تعاونه معها هو شركة المجاهد الشركة التي تولت عمليات ترميم عدد كبير من بيوت ومساجد وحمامات رشيد الأثرية حيث تعتبر رشيد مدينة أثرية مفتوحة ذات طراز معماري مميز وهي المدينة الشاهدة علي أيام الحملة الفرنسية علي مصر ، والمقاول الذي يعتبر من أهم وأشهر المقاولين المتعاملين منذ سنوات مع قطاع المشروعات هو صاحب أشهر مستخلصات في تاريخ الآثار تحمل في محتواها فكرة الكوميديا السوداء حيث قام الرجل عام 2009 وفقا للمستخلصات التي بين ايدينا والتي تخص بيت عبد الواحد الفاسي بالقاهرة، نذكر منها علي سبيل المثال المستخلص الجاري التثميني رقم 8 الذي تحدد فيه سعر تكسير المرحاض القديم علي هذا النحو : فك مرحاض بلدي بكامل مشتملاته 500 جنيه وقد نتصور أن المشتملات هذه هي صندوق الطرد و مواسير الصرف لهذا المرحاض البلدي إلا أن المقاول يفاجئنا في نفس المستخلص بأن سعر فك صندوق طرد بكامل مشتملاته أيضا ب200 جنيه! وكل من المراحيض وصناديق الطرد يبلغ عدده 61 أي أن فك هذه الوحدات تكلف 11 ألفا ومائتي جنيه أما فك مواسير التغذية التي يفترض انها أيضا من المشتملات فقد تكلف فك المتر الطولي منها 200 جنيه ويوضح الكشف ان المنفذ 250 مترا والمتبقي 115 وثمن المنفذ 50 ألف جنيه, ثم فك مواسير صرف صحي300 جنيه للمتر الطولي أيضا وثمن المنفذ 61 ألفا وخمسمائة جنيه، وهي امور تبدو كدعابة سخيفة داخل هذا المستند الذي يفصل فيه المقاول بين أسعار فك الأبواب وأسعار فك الحلوق فالحلق الواحد يتكلف فكه ألفي جنيه لعدد74 حلقا تكلف فكها 49 ألف جنيه, بينما تم فك الباب نفسه وكانه لم يكن مركبا في الحلق بمبلغ 2000 جنيه وبلغ سعر فك الأبواب منفردة 573 ألف جنيه لعدد 781 ونصف باب!! نعم، تم حساب سعر فك نصف باب،!، وهكذا فإن قيمة المستخلص رقم 8 تصل إلي 54 مليون وسبعمائة و82 ألف وخمسمائة جنيه قبل الاضافي الذي اضاف إلي هذا الرقم مايزيد علي مليون جنيه, وبالطبع لايدهشنا ان تكون قيمة تدبيس المتر المربع من شروخ في الحائط بقطع استينليستيل علي شكل حرف يو لايمكن ان يزيد عددها في المتر الواحد علي3 قطع 6 آلاف جنيه وهو البند الذي انفق فيه مائة و41 مليون جنيه وتم وضع هذه التدبيسات المفترض أن ترمم بها الحوائط الأصيلة القديمة فقط وبدلا من ذلك وضعت أيضا بطريقة عشوائية في حوائط تم بناؤها حديثا بطوب أحمر, والشركة المحظوظة هي نفسها التي قامت بترميم مساجد رشيد بنفس المنهج الرشيد ولعل النموذج الصارخ كان هذا البند في المستخلص الجاري التثميني رقم 6 سنة 2009 والذي يقرر أن توريد وبناء حوائط من الطوب بعشرة آلاف جنيه للمتر المكعب الواحد ، كما يتحدد فك وازالة جميع التجهيزات الصحية بمليون جنيه ويحدد البند أن هذا المبلغ "مقطوعية" وهو ما يعني بلغة المقاولات أن المبلغ المحدد في المستخلص يكون لازالة جملة التجهيزات في كل المساجد ثم اذا بالمقاول يضرب المبلغ في 5 ليصبح خمسة ملايين جنيه أما فك وازالة وحدات الإضاءة وجميع الشبكات فكان "مقطوعية" أيضا وقد جعلها بمليون وضربها في 6 فاصبحت 6 ملايين وحتي تكون الصورة واضحة فإن هذه الأسعار فائقة الارتفاع, حيث قدم مركز هندسة الآثار والبيئة بجامعة القاهرة لكل عملية ترميم مبالغ استرشادية كان لاينبغي ان يتجاوزها سعر المقاول وهي 921 ألفا و533 جنيها بالمقطوعية لفك وازالة وحدات الإضاءة المذكورة وتشوينها في صناديق خشبية وتسليمها إلي مخازن المجلس الأعلي للآثار ونفس المبلغ بالضبط لفك وازالة التركيبات الصحية بنفس الشروط السابقة في المذكورة في وحدات الإضاءة، بما يعني ان تجاوزات المقاول كانت جنونية. الغريب ان هذا المقاول العبقري هو من تم تحديد تجاوزاته في مستخلص واحد فقط هو المستخلص رقم 6 جاري لمشروع بيت عبد الواحد الفاسي بمبلغ 22 مليون جنيه حين قامت بفحص تلك المستخلصات اللجنة الشهيرة بلجنة المهندس أبو الدرداء والتي قامت بعملها بعد ثورة يناير بعد أن فاحت رائحة ترميمات ومستخلصات المقاول، وبالطبع فليس من الغريب ان يكون هذا المقاول الذي تأمل الآثار في حسن تعاونه معها هو صاحب التسليم النهائي الذي سينهار بعده جزء من مسجد الدمقسيس الأثري دون مساءلة لا للمهندسين الذين استلموا ولا للمقاول الذي خرب آثار مصر القيمة وفقا لمصطلح وزارة الآثار نفسها.