مد يده وأضاء مصباح الأباجورة إلي يمينه. أمسك كتابا وراح يقرأ.. استوقفته عبارة في الكتاب تقول إن أفظع شيء أن تبدأ في البحث عن نفسك متأخرا. وضع الكتاب جانبا وأغلق المصباح وغرقت الغرفة في العتمة. كان ضوء خافت يتسرب من ثنايا النافذة المغلق شيشها. لم تكن هناك أصوات إلا صوت يتناهي إلي سمعه بأغنية حزينة كئيبة. كان يعشقها في زمن قديم ثم غيرت الأيام أحاسيسه فراح يرفضها. خايفة تلاقي وردة تحلو في عينيك. اقطفها بإيدي ولا تجرحش إيديك.. ثم يتوقف عندما تقول الأغنية تجرحك الأشواك وتتعذب هناك.. هناك.. خلي الجرح لي وخلي الفرح ليك. يشعر بالرفض فتاريخه كم من الأحزان يتراكم داخله. تيار من الوحشة يغرقه. والغربة وحشة. في الصباح نهض متأخرا دخل الحمام واستسلم للماء الدافيء. أرتدي ملابسه وخرج محشورا داخل مايكروباص أجبر سائقه الركاب أن يستمعوا لكلمات يغنيها شاب ببحة حزن تقول إنه أقوي من الأيام والأحزان وغدر الصحاب. وكأنها تأكيد لما كتب السائق علي سيارته من عبارات تقول إحداها: اثنان مالهمش أمان.. الزمان والنسوان وأما الثانية فتقول: مفيش صاحب يتصاحب! ذات يوم مماثل تشاجر مع صاحب المايكروباص الذي أدار شريطه المفضل علي أغنية يعلن صاحبها في بيانه الغنائي أن الدنيا خربانة. يومها أغلق السائق الصوت تحت أعتراض الركاب الذين ضحكوا وتهكموا هم الآخرون علي ما يسمعون من بؤس يزيد بؤسهم ففي قولة أحدهم: هي ناقصة خراب!! فلماذا يذكرهم بما في نفوسهم وهم عنه غائبون أو تائهون؟ وقفز إلي ذهنه بيت من الشعر تذكره: في نفوسنا شيء حزين قد يختفي ولايبين. لكنه مكنون شي غريب غامض حنون.
كان الاجتماع الأسبوعي قد انتهي وانفض. وبعد عتاب وتوبيخ عرف أنه مكلف بحوار مع أحد الناشرين عن القراءة التي أقاموا لها مهرجانا ورفعوا لها شعارا يقول «القراءة للجميع». لماذا تراجعت القراءة؟ السؤال الدائم الذي يدور من عام لعام.. تماما كأزمات المجتمع والناس التي تدور في فلك يسبح فيه المسئولون. والمدار لاينتهي من حوله الدوران. هل حقا نطق سعد زغلول بعبارة مفيش فايدة وهو علي فراش الموت؟ لم يؤكد أحد ذلك ولكنهم يؤكدون قولة زعيم آخر هو مصطفي كامل بأنه قال لايأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس. في طريقه إلي المجلس الأعلي للثقافة وأمام أحد الكباري توقف أمام تمثال لعميد الأدب العربي تطلع إليه حزينا. أقترب منه لا ليسأله عن سبب تردي القراءة والثقافة ولكن ليتأمله عن قرب. زاد حزنه عندما وجد تردي الأحوال مجسدا في ذلك التمثال الذي بدا صاحبه بالروب الجامعي وكأنه خفاش.. علي قاعدة عريضة وعمود طويل وتمثال صغير ضئيل. كادت تصدمه عربة في وقفته المتأملة لحال التمثال ولم يسمع إلا تعليقا ساخرا من صاحب السيارة قاله وهو يصيح في غضب: ياعم.. عمللي مثقف!! وقلت ساخرا أنا الآخر ولماذا التماثيل في الشوارع تقام دون اعتبار لأصحابها وأهميتهم.. حتي نجيب محفوظ يبدو هو الآخر رجلا منكسرا منحنيا هده الزمن ويكاد يسقط من قاعدة تمثاله لولا عصاه التي يستند عليها. ويبدو حزينا إذ اختاروا له مكانا لايعرفه أحد ولا يلقي بال أحد في زاوية ميدان ما يزال يحتفظ باسمه القديم علي ألسنة الناس. في مبني المجلس الأعلي للثقافة سأل لماذا يبدو تمثالا طه حسين ونجيب محفوظ في حالة مزرية غير لائقة؟ ابتسموا وقالوا: ما يقام بالتكليف غير ما يقام بالحب. قال لمحدثه: ولكن انظروا إلي نهضة مصر وسعد زغلول لمحمود مختار. قالوا له: هذا هو الحب. لقد أحب مختار المهنة فأجادها واحب مصر فصاغها وأحب سعد زغلول فجسده في وقفته الشامخة. قال لمحدثه أريد أن أسأل وأنتم جهة الاختصاص ما معني القراءة للجميع؟ ولماذا رغم أنها للجميع كالماء والهواء فليس لها أثر ولا دليل بين الناس. قال محدثه: لأن القراءة وعي. والوعي لايتحقق إلا بالتعليم. ووجد نفسه يسأل محدثه: ثم ماذا؟ أليس هناك تعليم ولا وعي؟ قال محدثه: تبذل حكوماتنا جهدا كبيرا من أجل توفير الوعي بالتعليم ولكن المشكلة أن هناك أمية متعلمين.. تعرفها بالطبع كما أن هناك أمية الحرف الأبجدي. ومجتمعنا في حالة تحول وتحديات جسام. قال لمحدثه: ولكنك قلت ما يقام بالتكليف غير ما يقام بالحب! قاطعه محدثه وقال له: تشرب شاي ولا قهوة؟ فلما أجابه قهوة إذا تكرمت قال له محدثه: تريد القهوة نسكافيه ولاتركي ولا ثلاثة في واحد؟ ابتسم وقال: لا.. كله في واحد من فضلك. قام محدثه ليطلب القهوة وعاد أدراجه مبتسما حاملا كتابا أعطاه إياه قائلا: هذا آخر مطبوعاتنا. طباعة فاخرة وغلاف جميل.. أليس كذلك؟
ووجد ثناء زميلته في انتظاره لتحدثه عن معاناتها في تسجيل الماجستير وتعنت المشرف عليها في تجديد موعد المناقشة لظروفها التي تعوقها عن الانتهاء منها.. ومنها مرض والدها وهي المقيمة معه دون أم لتخدمه وتخدم أخويها الطالبين. سألها: علي فكرة ما هو موضوع رسالتك؟ قالت: الحماسة لأبي تمام. قال مبتسما: يا سلام!! قالت: إيه.. مش عاجبك؟ قال: وإذا كانت حياتنا كلها حماسا في حماس!! قالت مستفسرة: يعني إيه؟ قال: يعني تصفيق في تصفيق!! قالت وهي تصر علي أن تفهم: برضه.. يعني ايه؟ قال: شعارات في شعارات!! قالت وقد يئست: مش فاهمة! قال لها صارخا: أنا الشعب.. أنا الشعب.. لا أعرف المستحيلا.. ولا أرتضي بالوجود بديلا!! لاذت بالصمت وهي تتأمله متعجبة. لكنه واصل: افتحوا الأبواب.. أنا الشعب!! قالت وهي تقف في استنكار وغيظ: أقولك ديوان الحماسة لأبي تمام.. تقولي تصفيق وشعارات وافتحوا الأبواب!! وانصرفت غاضبة وهو ينادي: الحماسة.. الحماسة يا ولد.. وخليها مضبوط!!
علي سلم المبني اصطدمت به إحداهن وكانت تثرثر منفعلة مع أخري بصوت تتناثر منه الأسرار. لم تبتسم بل نظرت شذرا كان عليه أن يتحاشي الاصطدام بها بدلا من نظراتها التي يقدح منها الشرر. وفي الطريق لبيته اصطدم به شاب يتصايح في هاتفه واكتفي برفع يده علي سبيل الاعتذار. لم تعد الوجوه تري ما أمامها. علي المقعد في انتظار الأتوبيس أخرج كتابا من حقيبته وابتدرته امرأة تسأله: هو اللي بيروح الهرم كام يابني؟ أجابها في اقتضاب بجملة واحدة: الأتوبيس اللي حاركبه. واصل القراءة في مقعده داخل الأتوبيس بعد أن قطع الكمساري تذكرته. وشعر بفرحة غامرة عندما خاطبه قائلا: الباقي يا أستاذ!! لكنه شعر باكتئاب عندما راحت امرأة منتقبة تلقي بورقة علي حجره. ورقة في حجم الكف بسطور طبعت بالكمبيوتر. وفي لمح البصر كانت تلقي بالورقات علي بقية الركاب. تحكي المرأة في الورقة أنها تربي أيتاما وتسألهم المساعدة وكله مكتوب في ميزان حسناتك يوم القيامة. يعني لو لم تقدم لها المساعدة فلن تكتب في ميزان حسناتك.. قد تتحول إلي سيئة تضاف إلي سجل سيئاتك. لكنها تتسول وهي أمرأة داخل زحام الأتوبيس وتلك سيئة. كما أنها تخفي وجهها. امرأة بلا ملامح. لايبدو منها كذب من صدق. لن تعرفها إذا ظهرت لك في مكان آخر. كثيرات غيرها يمارسن التسول بمبررات مختلفة. في داخله قرر الاحتفاظ بالورقة. وعندما عادت تلم أوراقها من الركاب لم تنتبه إلي الورقة التي احتفظ بها وطواها بين أطراف كتابه.
وفي الميدان المزدحم المرتبك توجه إلي مطبعته التي أعتاد تجليد ما يشاء من كتب لها قيمة تستدعي التجليد حماية لها رغم أعباء الميزانية. لكن قرينه كثيرا ما يسخر منه متسائلا: ومن سيستفيد بتلك الكتب من بعدك.. أبناؤك؟ في قرارة نفسه يتحسر: وأين هم الأبناء؟ ثم يعود القرين المشاكس يسأل: من سيرثك؟ ويقطب هامسا لنفسه وهو يشعل سيجارة: ورثة من الغوغاء والجهلاء. لكنه يستريح عندما تلمع في ذهنه فكرة إهداء كل ما يمتلك من كتب لمكتبة الكلية التي تخرج فيها. ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به. كم كان يمني النفس بالثراء بعد أن ذاق سنوات الغربة.. لكنه عاد كما يقولون بخفي حنين. هناك أقامت قرينته دعوي أصبحت بها طليقته. وأخذت أبناءه البنات. حتي الولد الصالح لا وجود له. كم كان يتمني أن يشيد مدرسة بالمجان أو مركزا للمعرفة وتدريب المهارات ورعاية المواهب. أما الثقافة فقد امتصها في نسيج عقله وشرايين وجدانه. لكنه لم يكتب ما ينفع الناس ما كتب إلا أوهاما مؤلفة من القصص والحكايات، وفي النهاية سخر منه أحدهم وهو واقف يتأمل تمثال طه حسين صالحا «ياعم.. عمللي مثقف»!! رغم كل شيء مازال علي عادته. يحب المطبعة وعامل المطبعة. يحترم المكتبة وهدوء المكتبات مازال يحتفظ في أوراقه بكرنيه الاستعارة من المكتبة العامة التي كانت تطل علي النيل بجوار بيت أمير الشعراء. وفي آخر مرة مر بها فإذا هي خرابة!. رائحة الأقلام والدفاتر والأحبار والأوراق.. ما تزال تلك الرائحة عالقة في ذاكرته منذ كان تلميذا. لم تغادر الرائحة أنفه ماتزال تشكل أحاسيسه. وكلما أدرك ذلك شكر خالقه أن ثمة شيئا جميلا يحبه ويعشقه.. كرغيف خبز ساخن مع قطعة جبن براميلي.. وبعض الزيتون الأسود!
سأله صاحب المطبعة عن لون التجليد فقال: أخضر غامق. يسأله عن الكعب فيجيبه: جلد طبيعي. قال الرجل: أسبوع وتستلمه حضرتك. شعور بالانتشاء غمره مرة أخري عندما نطق الرجل حضرتك! أكمل طريقه عائدا فوقف عند بائعة الذرة المشوي. بنت صغيرة تشوي علي لهب الفحم كيزان الذرة. يمد لها في سعادة بثمن كوز الذرة الساخن فتنهض الفتاة إلي جارتها في مثل عمرها لتفك الجنيهات العشرة وتأخذ منها جنيها ثمنا لكوز الذرة. تلاشت براءة طفولتها. قال قرينه لو أهديتها لعبة من لعب الأطفال عروسا أو دبا لألقت بها إلي جوارها. هز رأسه وهو ينظر إلي يدها وقد أسودت من الفحم وجلبابها وقد أخذ لون التراب. لكن عينيها تبرقان كوهج الفحم المتقد. غزال شارد عن القطيع. وبينما يدس نقوده في جيبه وكوز الذرة في حقيبته لمح ثلاث فتيات أوروبيات يسرعن الخطي وهن يجتزن الزحام والفوضي.. مبتسمات حتي اقتربن من كشك الشرطة فمال عليهن جندي مبتسما يلوك لسانه كلام غزل.. فتنحين عنه ومضين في خطوهن غير مباليات. وهمس شابان لهن محاولين اعتراضهن فنهرهما رجل بجلباب صائحا: عيب.. دول سياح!! لم يرد عليه الشابان وظلا يطاردان الأوربيات بنظرات نهمة. وبينما قالت فتاة جامعية محجبة للشابين: عيب كده!! قالت لها زميلتها معترضة: كاسيات.. عاريات!! تذكر لعبة البوكيمون اليابانية.. والضجة التي أثيرت بشأنها حتي منعتها بعض الدول العربية بل وحرمتها. ما الذي جعله يتذكر ذلك الرسم الكاريكاتيري لرجل عربي يجري شاهرا سيفه وراء هذا البوكيمون ورافعا لافتة كتب عليها: حاربو البوكيمون.. البوكيمون مؤامرة صهيونية.. بينما في الخلف منه دبابة اسرائيلية يضحك قائدها.. ويقهقه!! جلس علي أحد سلالم البنايات وأخرج كوز الذرة وراح يقطمه فمازال ساخنا. لكن ما الذي جعله يتذكر البوكيمون وأزمته العربية؟ راح يبتسم ويضحك غير عابيء بأحد.. يالتلك الحالة!!