تعالت أصوات الباعة الجائلين بأصواتهم المتنافرة كل ينادي على بضاعته، كان عم صابر بوجهه المتغضن المليئ بالتجاعيد، واقفا أمام عربته القديمة يجر أسماله البالية، و هو ينادي بصوت مشروخ اختلط فيه النغم بالشجن بالتعب بالأمل: حلوة يا ذرة.. اقترب منه شابان يتضاحكان، سأله أحدهما بكم كوز الذرة يا عم؟ رد بابتسامة باهتة وكأنه يعتذر: الكوز بجنيهين.. لقد.. قاطعه الشاب بغضب: كيف؟ جنيهين مرة واحدة ! ازددات تجاعيد عم علي تغضنا وأجاب بصوت مرير: لقد ارتفعت أسعار كل شئ يا بني، الخبز و الأرز والسكر والخضار والزيت، يعني هي جت عالذرة؟ ربت الشاب على كتفه قائلا: آسف يا عم ما اسمك؟ أجابه بصوت هادئ: علي، أكمل الشاب: آسف يا عم علي، لم أقصدإغضابك، لكنني استغربت فقط غلاء الأسعار مثلك، ثم قال له بابتسامة صغيرة: أعطنا أربعة كيزان يا عم صابر، تمتم العجوز بكلمات غير مفهومة، وناولهما أربعة كيزان مشوية ملفوفة في أوراقها الخضراء.
جلس محمد وصديقه وليام على مقعد خشبي قرب العربة المتهالكة، يأكلان الذرة المشوية بنهم، سأله وليام: كم سنة وأنت تبيع الذرة يا عم صابر؟ صمت قليلا ونظر إلى وجه محدثه برهة متفكرا، وبرقت عيناه؛ فقد وجد أخيرا من يستمع إليه، وقال: أتعرف يا بني؟ عمري من عمر هذه العربة المتهالكة، بعت عليها الترمس والفول الحراتي والبطاطا، ومن عملي عليها تزوجت، ورزقني الله خمس بنات، ثم تنهد وأكمل بحزن: لكني لم أستطع حتى اليوم أن أدخر مبلغا من المال لأزوج بناتي، لقد بلغت كبراهن الثلاثين، أتمنى أن أزوجها قبل أن أموت، قال له وليام: أطال الله في عمرك يا عم صابر، وتزوج بناتك في حياتك إن شاء الله. تنهد صابر بعمق وهو يمسح دمعة فرت من عينه وقال: قل لي يا بني بالله عليك، كيف؟ هل ستنخفض الأسعار؟ هل ستتوفر شقق زهيدة الثمن؟ هل سيجد العاطلون عن العمل وظائف أو أعمالا يرزقون منها ؟ إبنتي الكبرى بكالوريوس تربية وتعمل باليومية في مدرسة خاصة، هل تعلم كم تتقاضى ؟ ستين جنيها في الشهر.. قل لي ماذا تفعل بستين جنيها ؟ هل ترى أن هناك أملا في أن تتحسن الأمور على يدي الرئيس الحالي؟ هل يا ترى سيأتي اليوم الذي أزوج فيه بناتي؟ هل سيأتي يوم نعيش فيه بلا ديون تكسر ظهورنا، أو هموم تحاصرنا من كل جانب ؟ قل لي؛ هل هناك أمل في أن يأتي مثل هذا اليوم؟ لقد هرمنا شبابا يا بني، ولم يأتنا حتى اليوم فرج الله الذي انتظرناه طويلا، قل لي يا بني، هل غضب الله علينا؟ ثم كرر مرة أخرى بصوت مخنوق: أكيد غضب الله علينا؟ لقد انتظرنا ثلاثين عاما ونحن ُنَمنى بالأماني والوعود الكاذبة، ولم يتحقق لنا منها شئ، وجاء الرئيس الجديد بنفس الوعود وذات العهود، ولم يتغير شئ، بل ازددات حياتنا كآبة وقتامة وسوادا، وثقلت علينا الهموم وتفاقمت المشكلات، وكأنك يا بو زيد ما غزيت ! تقطعت كلماته الأخيرة وأجهش ببكاء مرير وهو يضع وجهه بين كفيه.
نظر الشابان إلى بعضهما لا يعرفان ماذا يفعلان، مرت دقائق كالدهر، وقف عم صابر وكأن بصيرته تفتحت فجأة، نظر للشابين وقد ازدادت تجاعيد وجهه المتغضن: هل تدركان لماذا غضب الله علينا ؟ لأننا لا نراعي الله في التعامل بيننا، نسينا أن الدين المعاملة فاتخذنا من الدين ملابس ومظاهر وقشور، وتركنا جوهره من التسامح والصدق والإخلاص، أمرنا بالتعاون على البر والتقوى؛ فتعاونا على الإثم والعدوان، أمرنا أن يساعد بعضنا بعضا ويرحم بعضنا بعضا، فخرج منا من يحرض أبناء الوطن على قتل بعضهم البعض، يتقاتل أبناء الوطن الواحد فيقتلون ويقتلون هل هذا يرضي الله؟ من أجل ماذا ؟ من أجل منصب زائل وسلطة مؤقتة ؟ لقد صبرنا طويلا فلم لا نصبر قليلا ؟ ألستما معي في هذا؟ رد محمد: لكن يا عم صابر الدستور الجديد لا يرضي جميع المصريين، فكيف تريد منهم أن يرضوا به؟
تنهد البائع العجوز وكأنه تعب من الكلام، وهز رأسه متعجبا، وما لبث أن قال: يا بني، الرضا بالدستور على حاله أهون من سفك الدماء ونشر الخراب، وتدمير مستقبل البلد وأبناء البلد، قل لي بالله عليك من المستفيد مما يحدث في بلادنا؟ إنهم أعداؤنا الشامتون بنا الضاحكون على خيبتنا وجهلنا، ونحن كل يوم ننادي بتغيير الدستور وتغيير الرئيس وتغيير النظام، وكل يوم مظاهرات ومليونيات وتعطيل للدنيا. سكت عم علي قليلا نظر إلى الشابين وأكمل: ربما تقولان عني رجل عجوز خرف، لكني لا أريد سوى ما يريده البسطاء مثلي، نريد وطنا نشعر بالأمن فيه، نريد وطنا يكبر فيه أبناؤنا، ولا تسفك فيه دماؤهم، نريد وطنا نحتمي به ولا يقتل فيه الأخ أخاه، نريد وطنا نشعر بإنتمائه لنا وإنتمائنا إليه، نريد وطنا يحتضننا ولا يلفظ خيرة أبنائه إلى الخارج، نريد وطنا يؤمن لنا عيشة كريمة لا ذليلة، هذا ما نريده.. ألقى عليهما نظرة أخيرة مبتسما وكأنه أدى واجبه نحوهما، دفع عربته القديمة، وجرجر أسماله البالية وعلا صوته: حلوة يا ذرة.