فى نصوصها القصصية "بريق لا يحتمل"، الصادرة عن دار ملامح للنشر بمصر 2008، تعيد سمر نور اكتشاف الروح الإبداعية الكامنة فى الأشياء، و الشخوص بعيدا عن وضعها ضمن الإطار الثقافى الآلي، و الشمولي، أو الجسدى المحدود؛ فاللغة التى يصف بها وعى الساردة الأشياء تجدد من إحساس الجسد بالعالم عن طريق التحامه الطيفي، بالصور الخفية الممثلة لطاقة الشيء الإبداعية الفريدة، و التى تمنحه قدرة على التفاعل، و الذوبان فى الآخر خارج الحدود الحتمية الأولى؛ فمن داخل الصمت، و الحدود الزائفة بين الأنا، و هذه الطاقة الكامنة فى الآخر، و الأشياء، يولد عالم آخر ديناميكى يجسده السرد جيدا. هذا العالم قوامه البهجة، والخلاص من خلال تمدد الجسد نفسه خارج حدوده، وممارسته لإغواء التوحد بالصور والأخيلة والأطياف المتولدة من اندماجه بالعالم. فى نصوص سمر نور تداخل بين ثقافات، وأفكار عديدة تصب كلها فى محاولة اكتشاف مجال تمثيلى كونى جديد مناهض للأزمات الثقافية، و الوجودية الراهنة؛ ففكرة الخلاص من حتميات التجسد تذكرنا برسائل القديس بولس، و لكن سمر يختلط عندها المزاج الحسّى بالخلاص من خلال الصورة الخالدة الفريدة للجسد نفسه و اندماجها بحركية صور الأشياء الخفية يذكرنا بالنرفانا لكنها هنا أكثر سردية و تكثيفا، وانقطاعا، فعوالم سمر مجزأة، وقصيرة، ولحظة التأمل فيها مستبدلة بالأداء. "..." إن سمر تكشف عن اندماج الوجود بالاختفاء من خلال التحول المستمر للصورة – الجسد وانفتاح الحدود بين الوعي، والظواهر التخيلية الواقعية. إن إشارات مثل "الزجاج – البريق – اللون – النغمة – اللوحة – مقهى الإنترنت، و غيرها" تجسد عالما يتجاوز المزاج الثقافى الراهن، ويقاوم نزوعه المتزايد نحو الآلية، والاستسلام. يحاول الوعى الجديد إحياء الهامشي، والإبداعي، والمختلف، والمتناقض أحيانا منذ نيتشه، وهيدجر، وفرويد، ودريدا، وغيرهم ليكشف عن فاعلية هذا العالم الخفي. وقد كشف الناقد الكبير تيرى إيجلتون عن تلك الدلالات الثقافية المعارضة للفساد الإنساني، والمزاج النفعى فى استعادة إبداع وليم بليك، حيث تتمتع ظواهر الحياة عنده بالقداسة، وتختلط السياسة بالفن، والخيال، وتتجاوز النسخة البرلمانية. هكذا يمثل التمرد الفريد للأشياء، ومن ثم قدرتها على تجاوز عالمها المحدود، والذوبان فى المجالات الأخرى عنصرا ثقافيا مؤثرا، ويؤسس لاختلاط تفاعلى بين الكتابة والواقع، وكذلك التأويل الثقافى لتراث الفن فى جدله مع القيم الثقافية للحظة الحضارية الآلية المعاصرة كما فعل إيجلتون، وغيره. إن كتابة سمر نور القصصية تحتفى بالطيران والخفة والتقاطع مع الآخر غير المرئي، من خلال أثر صورته الأولى، وليست الصورة الأولى نفسها. تلك التى تقاومها الساردة بشدة؛ لحرصها على تأكيد حالة الذوبان الروحي. فى نص "جسد الأرض العاري" ترسم الساردة صورتين لفتاتين؛ تتهيأ الأولى للتصوير، فتزين وجهها أمام المرآة، ثم تنظر ببراءة للكاميرا. أما الأخرى فقد أوشكت أن تتخلص تماما من آثار الجسد، و تنتزعها الوحشة من ذكرى البهجة رغم فاعليتها على مستوى الوعي. فالجسد قد انقسم بين المستوى الهامشى الذى يستدعى العقاب، والذنب، والموت، ومستوى التحرر الكامن فى لذة الخروج من الحدود المكانية الضيقة الكامنة فى حيز الجسد، والأرض معا. الجسد الطيفى يحاول قتل الجسد المحدود من خلال الوصول بهامشيته إلى الدرجة القصوى، فنجد الأخير يخالط القمامة، والكلاب، والقطط . أما الآخر الذى أوشك أن ينعتق فنلمح فيه بهجة الحب التى ميزت الفتاة الأولى، وقد تجاوزت سذاجة الفرح بالهوية الأنثوية الشخصية، إلى براءة الصورة التى تشبه المرآة، واللون ، والرسوم الجدارية. هل هى براءة الاختفاء؟ أم محاولة الذوبان فى المدلول غير المحدود للمادة، و قد صارت تشبيها حرا؟ وفى نص "عالم زجاجي" تتحول الأشياء، والشخوص وعناصر المشهد جميعها إلى آثار متداخلة لا يمكن القبض فيها على الحدود التى تشبه الزجاج فى الكشف، وقابلية الاندماج بين العلامات أو الصور. لقد اكتسبت آثار المشهد طيفية الزجاج و أصبحت الساردة فراغا وظيفيا مستبدلا بالآثار الأخرى فى حركيتها التمثيلية خارج حدودها الأولى. إن الوعى قد تخلى عن وضع نقطة مركزية للبداية، أو النهاية؛ ليقتل الجدر، والحدود بين العوالم المجزأة، التى هى فى حالة تفاعل أصيلة قوامها أخيلة الجسد الآخر المتمرد على الحدود، فقد صارت الساردة عودا فى يد العازف، و امرأة على سرير العاشق، كما عاينت تجارب الموت، والألم فى الآخر، وكأنها تتهيأ فى كل مرة أن تصنع بداية جديدة تشبيهية تتجاوز من خلالها الحضور الجسدى الأول، والمرض الأول، والخطيئة الأولى. إنها تنتهك لذة الحب من خلال أخيلة الحب الحرة، وكذلك حتمية الموت من خلال نزوعه التمثيلى المتكرر، وتفاعله مع عناصر الحياة الديناميكية. هل جسدت تلك الحالة روحا إبداعية جماعية تتجاوز المركزية الشخصية الانعزالية؟ أم أنها تفتيت ما بعد حداثى للمعرفة الشمولية؟ وفى نص "غرفة البدينات" تتحول حالة الغربة بين الوعي، وبدانة الجسد فى المرآة إلى انتشار مرح لصور البدينات، وقد اندمجت بأطياف ضوئية، تميل إلى الاختفاء والتلاحم. إن الفرح الطفولى بالضوء يحول الجسد المتضخم، أو الشارع المزدحم إلى أثر متجدد فى مجموعة من الأطياف وإيحاءات البدانة التى تتفوق على البدانة الأصلية الغريبة فى المرآة. وفى نص "منذ أن خرجنا من الكهف إلى أن عدنا من جديد" تروى الساردة رحلة الخلاص من التجسد المحدود بمعانى الألم، والشهوة، والقوة، وهوية الأنا فى مواجهة الآخر، إذ يستدعى فى تكوينه الجريمة، ومن ثم عقدة الذنب التى انتقلت من الجسد إلى دال آخر، وهو الحقيبة، وقد قررت الساردة أن تتخلص منها عقب إحساسها بأنها ارتكبت جريمة قتل قرأت عنها فى الجريدة. ولهذا المستوى الوظيفى من القصة دلالتان: الأولى: الإغواء التمثيلى المتكرر لتجربة الآخر من خلال المتكلمة، أى أنها حريصة على الخروج من الجسد الواقعى المحدود بهويتها، وتاريخها، واسمها، باتجاه الصورة المتحولة التى تستبدل الجسد الأول من خلال إعادة إنتاج الآخر، والذوبان المؤقت فى صورته، وكأننا أمام تفاعل مفتوح من الآثار، والعلامات الكونية المتجددة فى حالة الذوبان. الثانية: تأكيد الوجود من خلال الاختفاء فى صورة الجسد المتخيلة، والفاعلة معا، فالساردة تشعر بوجودها من خلال رقصتها المتخيلة المضادة للتجسد فى رمز الجريمة/الحقيبة ماذا يعنى هذا الانحياز الروحى الكامن فى الوعى بالجسد، والعالم؟ هل هو رغبة لا واعية فى تجاوز الفعل الأصلي، ومن ثم العقاب، والألم أيضا؟ أم أنه مقاومة لهامشية الوجود المرئى من خلال تجريد الرقص كحدث كونى جمعى تمثيلى يشبه عالم الإنترنت الافتراضى الذى يجمع بين العنف والحب الطيفي، وتوتر الوجود فى محركات البحث؟ لقد تحققت الهوية فيما يتجاوز مركزيتها، ويبقيها فى حالة توحد مع اللون المجرد، والرقصة المجردة من الثقل، وإن كانت حاملة لطاقته الخفية المتحررة من الحدود الواقعية. وفى نص "بريق لا يحتمل" يتصاعد كل من عنف الرغبة، وعنف الموت، فى بريق عينى القاتل، وتبدو الضحية/ الفتاة متوحدة بهذا البريق الفريد المتجاوز للثقل الجسدي، وتستسلم له، ولكن القاتل يضرب فتاة أخرى. إن العالم الذى تجسده الساردة من خلال الإيحاءات، ولون الدم، وصوت الفتاة الأخرى يدل على بداية تشكل لصورة جماعية جديدة تذوب فيها هذه الآثار، و يتجدد من خلالها المشهد دون خوف، أو انتصار للقاتل على الفريسة. وفى نص "بيت ومدفأة" تتشكل خصوصية المكان من خلال ذكرى الأصوات، والروائح فى وعى العجوز، يكمن إذا خلاص المكان فى روحه الانعزالية الفريدة التى تبحث عن أرواح مماثلة. إنه مكان لا يخضع لآلية السوق، وإنما يبرز فى المشهد كأثر لا يمكن محوه؛ فالذكريات فيه تحررت من وظيفتها الأولى، وانتقلت إلى الساردة كصورة تقرأ من خلالها ثورة جسدها على صلابة الحيز الضيق الآلى داخل الوعي، وخارجه. هكذا تحيا العلامات الاخرى عند سمر نور فى حضورها الفنى البديل عن معناها الشمولى الأول؛ فالجدار يتجاوز صلابته فى حركية اللوحة، وتفاعلها مع روح الساردة، وذكرياتها فى نص "الجدار "، والوحدة تولد عالما تمثيليا عن طريق إبداع الآخر فى لحظة فريدة لا يمكنها أن تكون وصفا لهويته وحدها، وإنما تجسد صورته الممزوجة بجسد الساردة الآخر المتخيل، والمتجاوز لحالة الوحدة الزائفة فى نص بعنوان " وحدة " ، و قد تتجدد الأحاديث الفريدة لذكية وسكينة وأحاديثهما و نغمات البيانو فى روح المكان التى تتجدد فى أخيلة الطيران، وخلود موسيقى المكان فى نص بعنوان "شاى العصاري". وتصير صورة الشال الأخضر الحامل لخصوصية العرافة، دالا يحمل آثار الحرية والخصوبة وتجاوز الموت، وكأنه حلم لخلاص الذات يجمع بين نشوة الرغبة وخفة الصورة الأخرى للجسد فى نص "شال أخضر" وفى "سيكودراما" يناهض العرض التطهيرى تاريخ المتكلمة، ويسخر من مركزية وعيها بالعالم ويبدو حاملا لصور جديدة قيد التكوين من خلال توحدها بطاقة الأشياء مثل الظلام والبئر والماء وغيرها. * المتوالية المضادة: تبدأ المتوالية القصصية عند سمر نور بمستوى تأمل الساردة للعالم أو تذكرها لحدث تاريخى بعينه، ثم تنقلب فى اتجاه مضاد للأول فنجد الهوية ملتبسة بإغواء التوحد والخروج من معنى التأمل الانفصالى للأشياء من الخارج إلى متوالية سردية تقوم على الذوبان وإبداع تكوينات جديدة من العلامات الأولى نفسها، وقد تحررت من مستوى معرفة الساردة بها إلى مستوى الأداء التفاعلى اللامركزى للصور الجديدة القابلة للتأويل؛ ففى نص "عالم زجاجي" تحولت الساردة إلى عود فى يد العازف فى المستوى السردى الثانى المتجاوز لتأملها له وهى تلتهم "الجاتوه" فى المستوى الأول . إنّ كتابة سمر نور تجسد تلك الرغبة الخفية فى الإحساس الفريد بالعالم، ومناهضة آليته