عندما أصدر رولان بارت كتابه المهم عن فلسفة فن الفوتوغرافيا »الغرفة المضيئة«ام 1979 قبل وفاته بسنة، كان يناقش العلاقة بين الصورة واللغة، أو بالأحري الصورة الفوتوغرافية كلغة، كسيماء خاصة توثق للحظات متفردة في حياة الإنسان، فالصورة هنا تصبح وسيلة لتوثيق الزمن والإمساك به وتوقيفه، ليس للذكري، ولكن كذكري مضادة، ربما تجعلنا نتعرف علي طرق العيش وقت التقاط الصورة، أو نفكر فيما كان يشغل بال المصور وقت التصوير. الكتاب الذي صدر عن المركز القومي للترجمة عام 2010 من ترجمة الفنانة رنا النمر ومراجعة الدكتور أنور مغيث، يطرح فيه «بارت« أفكارا تحرر الصورة الفوتوغرافية من معناها الوظيفي، ويبحث في مستوياتها المختلفة ومحاولات تأويلها كفن ما بعد حداثي، وكوسيلة جديدة للتعبير عن الذات، ربما تكون منافسة للغة الأدب الوصفية، ومستفيدة من قدراتها الخاصة علي طرح العام والخاص وجعلهما أحيانا همًّا فرديًّا للمصور. يقول «بارت»: «عادة ما يُعرف الهاوي علي أنه عدم نضج الفنان، شخص لا يستطيع أو لا يريد الارتفاع إلي مستوي إتقان المهنة، ولكن في حقل الممارسة الفوتوغرافية، علي العكس هو الحالة الاحترافية، لأنه هو الذي يمكث قريبا من جوهر الصورة». وهذا ما وجدته أقرب إلي نفسي، فقد كان التصوير الفوتوغرافي بالنسبة لي هواية، حيث عملت كمصور محترف بإحدي الجرائد اليومية التي لها موقع إلكتروني ينشر الصورة ويقدمها بشكل جيد، ولكن كانت المعضلة بالنسبة لي أن موضوعات التصوير محددة سلفا من رئيس التحرير أو باقتراح من أحد الصحفيين، فليس هناك حرية كبيرة للمصور الصحفي في مصر تتيح له تقديم موضوعات تخصه، وليس هناك مساحات كافية لعرض الفوتوغرافيا بشكل يليق بها، ربما كان فن الكاريكاتير أفضل حظا من الصورة الفوتوغرافية في الصحافة المصرية لما له من تراث ومساحات أكبر في الصحف، ولهذا فإن الصورة الفوتوغرافية المنشورة في الصحافة المصرية تكون محدودة، وفي أغلب الأحيان مجرد نغمة مصاحبة للخبر، وربما تحمل الصور التي تحتل مساحات في الصفحات الأخيرة طبيعة أقرب للشكل الاحتفالي وأقرب لفن الكاريكاتير من حيث اشتمالها علي فكرة المفارقة. كانت هذه الأفكار تشغل بالي في فترة حظر التجول في العام الفائت، وكانت معي الكاميرا، فالتقطتُ بعض الصور التي عبرت عن رؤيتي لحظر التجول، بعضها صورته خصيصا في تلك الفترة، والبعض الآخر شعرت أنه يعبر عن إحساسي بفكرة حظر التجول. حضرت في حياتي أربع فترات لحظر التجول، الأول كان في بدايات عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكان بسبب الاحتجاجات التي اجتاحت معسكر الأمن المركزي بالهرم، ثم سرعان ما سارت كالنار في الهشيم في معسكرات الأمن المركزي، وكان سببها الشائعة التي انتشرت في تلك الفترة بتمديد سنة أخري لجنود الأمن المركزي، بحيث تكون مدة خدمتهم أربع سنوات بدلا عن ثلاث، تلك الأحداث التي كانت ربما تنذر بثورة لولا التزام الناس بحظر التجول. المرة الثانية كانت في أوج أحداث ثورة يناير، ومع الإعلان عن نزول الجيش وفرض حظر التجول وهو ما لم يلتزم به أحد. المرة الثالثة كانت أثناء حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وكانت تستهدف مدن القناة ولم يلتزم أحد بقرار الحظر، بل صار قرارا تعامل معه الناس بشكل أقرب للكوميديا، عبر بصدق عن أزمة حكم الإخوان، وعمّق أزمتهم مع الشعب المصري. المرة الأخيرة كانت في وقت حكم الرئيس المؤقت عدلي منصور، وقد استجاب الشعب المصري لقرار الحظر بطريقة مبهرة، وكنت أقف يوميا في شرفة شقتي أتامل حركة الشارع والناس وكيف تتوقف تماما بمجرد حلول الساعة السابعة. أُعلن حظر حركة القطارات في مصر، وسنجد في محطة سكك حديد مصر اللافتة الكبيرة المكتوب عليها كلمة القاهرة، وسنجد هنا صورًا مختلفة لمحطات السكك الحديد في القاهرة وبورسعيد والمنصورة (كوبري طلخا حيث حركة الناس نادرة ولا يوجد سوي عامل التحويلة البورسعيدي الذي يجلس ناظرا إلي اللا شيء)، أما في الإسكندرية، سنجد الشاب يجلس عكس اتجاه جلسة الرجل، وتلخص الصورة حالة المفارقة بين الجيلين، وبالتأكيد كان الأمر ينطوي علي مفاجأة، وكما يقول بارت في تأملاته: «الصورة هي محض مصادفة خالصة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك» ويقارن مرة أخري بين اللغة وبين الصورة، فيقول: «اللغة بطبيعتها خيالية ويتطلب جعلها غير خيالية منظومة هائلة من الإجراءات، نحن نستدعي المنطق، وإذا تعذر فالقسم، ولكن الفوتوغرافيا لا تخترع، هي التوثيق نفسه، الحيل النادرة التي تسمح بها ليست نزيهة علي العكس من ذلك هي خدع». في العام 1979 لم يكن ظهر فن استخدام الفوتوشوب في الصورة الفوتوغرافية، وهو الفن المليء بالشراك والخدع التي يتم توظيفها فنيا في الصورة لإضافة أبعاد جديدة عليها، ولكنه كان سيغير من نظرة رولان بارت للأمر كله. الفوتوغرافيا والقصة القصيرة هناك ملامح مشتركة كثيرة بين فن القصة القصيرة وبين الفوتوغرافيا اكتشتفتها مع الممارسة، فإذا كانت الصورة الفوتوغرافية بالنسبة لي لابد أن تشمل ثلاثة عناصر، الأول (الكونسبت) أو المفهوم الدلالي للصورة الفوتوغرافية، وهل يمكن أن تشكل مع بعض الصور حالة معينة تصلح كنموذج للعرض الفني أو للطرح الجمالي، أو علي أقل تقدير، تشكل حالة نفسية أو إنسانية ما لدي المتلقي. العنصر الثاني هو (الفورم) وهو ما يشبه الأسلوب في اللغة، لأن الفورم هو ما سيتحدد علي أساسه نوع العدسة أو طريقة التكوين التي ستشكل مع بقية الصور الكونسبت المراد طرحه في مجموعة الصور التي تندرج تحت موضوع/ مفهوم معين، وأخيرا (الفريم) حيث أفكر في شكل القاعة وطريقة عرض اللوحات وحجم كل لوحة في النهاية وفي القصة القصيرة نجدها لا تخلو من العناصر الثلاثة، خاصة عند ضمها مع قصص قصيرة أخري لتشكل حالة قصصية أو مجموعة بها كونسبت معين تدور حوله، ويكون الفريم هو طريقة تقسيم كل قسم به مجموعة من القصص تجمعهم فكرة ما، أما من ناحية الفورم، فالأسلوب الفني للقصة القصيرة المعتمد علي التكثيف واقتناص لحظة معينة في حركة الزمن يتشابه مع تكنيك الفوتوغرافيا. فكرت في نشر هذه النصوص أسفل الصور المعروضة في ذلك المعرض الافتراضي عن حظر التجول. حرب أهلية كشخص مدرب يتعامل مع الوحوش الضخمة، تلك التي لا تأتي أبدا إلا لشخص مثله، ولا يمكن أن يتصورها أحد، حتي صانعو أفلام الخيال العلمي، إنها الوحوش التي تفترسك بضربة واحدة، وتقتحمك بأقل إشارة من يدها ولا تفارقك أبدا، إنما الوحيدون فقط هم من يستطيعون إشهار أسلحتهم في وجهها؛ لأنهم تعايشوا مع أنفسهم وحللوا كل المواقف التي مروا بها ونزلت دموعهم في صمت، وكان صوت أنينهم لا يتوقف؛ لأنهم لا يتوقعون أن يربت عليهم أحد، أو أن يشاركهم تلك الحروب الفظيعة التي يخوضونها في كل لحظة مع اللاشيء. تأمل طول عمري بقعد علي كراسي القهوة اللي مش ممكن تسافر بيك لأي حتة غير اللي انت قاعد فيها، ولما بروح البيت في آخر اليوم بجري بسرعة علي البلكونة اطمن علي عمود النور الوحيد المنور في الشارع لأن نوره لو اطفي مش هقدر أشوف أي حاجه وأنا راجع الساعه أربعه الفجر في عز الضلمه، ومفيش حاجه بتونسني غير صوت المقرئ الصادر من الدكاكين المقفوله في الشارع، وساعات خناقه أم سعيد مع جوزها في الدور التالت أو الكلب البلدي اللي بينام قدام محل العصير اللي في أول الشارع توك توك نحن مواليد العمليات القيصرية، مريدو اللبن المجفف، سنتخرج من الجامعات الحكومية، نجلس سنوات طويلة في المقاهي بلا عمل، ستغزو الشعيرات البيضاء رءوسنا، سيموت بعضنا علي الطرق السريعة، والبعض الآخر غرقا علي سواحل المدن الأوروبية، سيكون أكبر أحلامنا امتلاك شقة سبعة وستين مترا بمدينة جديدة ندفع أقساطها علي عشرين عاما، وزوجة موظفة تركب توك توك وميكروباصين لتصل بيتها بعد عشر ساعات عمل، تصنع من علب الطبيخ المجفف وجبات تتمني ألا تأكلها، سنتقاتل من أجل رغيف خبز، وللحصول علي تذكرة مترو، ستتعدي أعمارنا الأربعين دون أن نحقق شيئا مما حلمنا به، وسيكون لدينا ولد كل ما نطمح فيه أن يدخل مدرسه تجريبية يمكن تقسيط مصاريفها علي مدار العام، سيقنعونا بأننا ولدنا في مرحله انتقالية، وأن كل شيء سيكون علي ما يرام فور عبورنا عنق الزجاجة، وكلما نطالع في الصحف كارثة جديدة أو حريقًا ضخما أو قصة جديدة لرجل أعمال هرب بأموال البلد للخارج، سنقول: قدر الله وما شاء فعل. في ختام قراءتي لكتاب تأملات في الغرفة المضيئة لرولان بارت، نظرت للعنوان مرة أخري، واكتشفت المفارقة التي رمي لها منذ اختياره لذلك العنوان المراوغ، فالغرفة المضيئة تحرق الصور ولايظهر منها شيء وتصبح غير صالحة للعرض بينما المصور الذي يطبع أعماله في المعمل ويستخدم التصوير(الانالوج) يجب أن يعمل في الغرفة المظلمة وبالتالي الغرفة المضيئة يمكن تأويلها بأنها مشاركة المشاهد ومتلقي الصورة حيث تكتمل العملية الفنية بذلك التأويل. ولهذا فالفوتوغرافيا لغة ولكل لغة علامات، ولكل علامة إشارة هي ظاهرة فمينولوجية تعتمد علي الشعور المجرد، شعور الفنان ومشاعره تجاه مايصوره وشعور المتلقي وحالته النفسية. والمصور هو سيميائي يبحث من خلال السيوليد وأكاسيد الفضة عن حلمه الخاص في تخليد اللحظة الفانية، وجعلها ليس شاهدا علي زمن، بل شهادة تتحدي الماضي والموت والفناء.