ثوب الفرح صوت الغناء يعلو، يسد الأفق، ويفتح معه أبواب السعادة، لكنها تحمل ثوب الفرح وتضعه في تابوت للموتي، ثم تحكم غلق التابوت جيداً... تمر الليالي ويتكرر الحلم.. أرغمها خوفها علي رفض كل من تقدم لخطبتها.. تبحث في مرآتها عن إجابات لأسئلتها؛ فتري شبح امرأة تسكن مرآتها، تحاول الحديث معها، لكن الصوت يخرج مكتوماً مخنوقاً ، تسيل دموع المرآة، تسقط وتتكسر.. تبحث عن مرآة أخري لكن دون جدوي. تغلق عينيها وتهرب من نفسها... أختها الكبري ستتزوج اليوم. صوت الدف يكاد يقتلع قلبها فينشر خوفاً يزلزل كيانها كله إلا إنها تلزم الصمت.. ترحل أختها ويرحل الناس ويهدأ البيت. بعد ساعات قليلة، جاءهم الخبر: " أختها في المستشفي". "ماذا حدث؟ " رد الزوج:" لا أعرف، لقد سقطت فجأة". وقفت بمحاذاة حجرة الكشف. رأت أختها ممددة بأعلي منضدة، والحناء لا تزال ترقص في يديها، وثوب الفرح ملقي إلي جوارها. الدكتور يقول بأنها ماتت إثر سكتة قلبية.. صرخت صرخة مكتومة . ذهبت للبيت حاملة ثوب الفرح، ووضعته داخل صندوق، ثم أحكمت غلقه جيداً... طلبها زوج أختها للزواج.. شيء ما يدفعها نحو الصندوق؛ ما زال ثوب الفرح حبيس الصندوق.. والحناء حبيسة يدي أختها. صوت من الجحيم هذا الليل الآخذ في الاضمحلال، ربما يذكره بالجثة الأولي . كان الجو عاصفاً يوم ذاك. الأفيون وحبوب الهلوسة لا تزال مسيطرة علي رأسه، والساقطة التي بين يديه لا يزال جسدها دافئاً، غضاً ينتفض مع الهواء. بالأسفل، إلي جوار العبارة الخشبية، عند جسر السكة الحديدية أمسكها رجل آخر، وأعطاه الثمن المطلوب. أخذها الرجل إلي الداخل، في كوة صغيرة، والمرأة ترتعش بين يديه. بعد قليل، خرج صارخاً مرعوباً. قابله الثاني مستفسراً، أجاب بأن مسَّا قد أصابها. لم يصدقه، وابتسم ظناً منه أنه أبله، لكنه عندما ذهب خلفه ليتفقده، وجده مطروحا أرضا وقد فارق الحياة تماماً.. خرجت الفتاة من الكوة وهي تبتسم. ذعر من منظرها الغريب؛ شعرها المتناثر في كل مكان، جسدها الأبيض المتورم، وعينيها الواثقتين وهي تقول له في صرامة أن يأخذ جثة الرجل ولا يدفنها، بل يتركها داخل ذلك الخندق عند سفح الجبل. وطلبت منه أن يأتي لها كل ليلة بالمزيد. حمل الرجل جثة صاحبه في هدوء وذهب بها كما أمرته. يشعر بها خلفه، تراقبه جيداً، ترمقه بنظرات غريبة.. قالت له في هدوء: " الحفرة كبيرة، إنها تطلب المزيد، والليل طويل؛ يطلب المزيد أيضا، والحزن كبير، إنه يطلب المزيد". وعلا صوتها حتي تمني أن تكف عن الحديث. تركها متجها إلي بيته. يشعر أنها تتبعه: " يبدو أن حبوب الهلوسة هي التي سببت لي كل هذا "، همس قبل أن يدفع باب بيته ويدخل. أطفاله نيام، وزوجته إلي جوارهم. إنها الليلة الأولي التي يشعر فيها بالخوف من الموت الذي كان يسخر منه دائماً ، ومن الجحيم الذي تحدث عنه الشيخ في المسجد، لكنه ترك كل ذلك خلفه، ضم زوجته لأول مرة واختبأ في حضنها. في الصباح، ذهب إلي عمله متجهما، غير مصغٍ لأي شيء، ورجع منه أكثر وجوماً . ضم أطفاله وهو خائف. تذكر ليلة البارحة، ظن أنه كان يحلم.. جن عليه الليل وهو لا يزال مرتعدا. قرر ألا يجالس من كان يجلس معه، وقرر أن يمتنع عن تلك الحبوب التي أفقدته وعيه ليلة البارحة. في المقهي القريب من بيته اتخذ ركنا قصيّا وجلس يراقب الناس. كلهم فقدوا عقولهم؛ في المسجد، يبكون بحرقة حتي تبتل لحاهم، يغتسلون جيداً ويندمون جيدا حتي يقتربوا من مصافحة الملائكة، ثم يعودوا لنفس المقاعد المتكسرة، مثل قلوبهم، يعودون في لهفة إلي أحلامهم التي يصنعونها، مع أول سيجارة مخصّبة، مع أول كأس مُرة.. يتجدد حلمهم مع خيط الدخان الرفيع الذي يعتلي رؤوسهم جميعاً... اهتز فزعاً عندما رآها واقفة أمامه وهي تبتسم قائلة: ألم يكن بيننا موعد الليلة؟ فتح عينيه جيداً، فغر فاه وخرج الكلام تائها: اذن، ما حدث ليلة البارحة كان حقيقة!! قالت : ما الذي حدث البارحة؟ أنا لم أرك منذ أيام طويلة، لكن كان بيننا موعد من زمن. قال محتدا: ليس بيننا موعد، ثم أدار لها ظهره، وما إن خطا خطوة واحدة حتي وجدها أمامه، وابتسامتها المرعبة تسد عليه الطريق.