فى بداية شبابه وتفتحه على العالم أهم خصائص الرواية الناضجة ، هو تركيز الميكروسكوب الروائي علي الكائن البشري لنتعرف من خلاله علي أنفسنا ، علي هذا الكائن ، علي معني ما نفعله ، ولماذا جئنا لهذه الأرض ، وليس من السهل معرفة ذلك ، حتي أننا ننسي هذا السؤال عدة شهور ، أو ننساه دائماً في بلدة " بارّانكا " البترولية الواقعة في الغابة الكولومبية ، والتي عانت ما عانته من الحرب والعزلة ، ذهبتُ أبحث عن بعض المعلومات حول الأحداث الواقعة فيها ، فدخلت المكتبة العامة ، وسألت عن المكتبيّ الذي أخبروني أنه رجل دقيق واسع المعرفة بما يخص تلك البلدة. وبينما كنت أحادثه ، دخل مجموعة صاخبة ، من الأولاد والبنات ، تتراوح أعمارهم بين العاشرة و الثانية عشرة ، جاءوا أيضا لغرض مماثل ، سؤال المكتبي عن النساء الشهيرات في الحياة الكولومبية ، حيث عليهم البحث في ذلك وتقديمه للمدرسة كواجب مدرسي ، وهي فكرة شبيهة لما قام به السيد جوزيه في رواية " كل الأسماء " ، عندما سجل في ورقة أكثر من مائة شخصية شهيرة ، الفرق الوحيد يكمن في أن بحث الأطفال يقتصر علي النساء دون الرجال . بدأوا في توجيه أسئلتهم للمكتبي عن الوزيرات ، ممثلات السينما ، فتيات الموضة ، وأخيرا أجابهم متصنعا أنه يسمعهم وسط ضجيجهم : إن المشهور ليس هذا الشخص الذي يلقي خطباً ، ولا هذا الذي يظهر في الصحافة و التليفزيون ، وإنما المشهور هو هذا الذي يهب الآخرين أسباب السعادة ، وبالتالي عليكم أن تنسوا الوزيرات و الممثلات وفتيات الموضة ، و عودوا إلي أحيائكم وقابلوا مدرساتكم و أمهاتكم و جداتكم وطبيبة المستوصف ، والتقوا بأختكم التي تدرس في الجامعة ، بالأخري التي تعمل لأنها لا تستطيع الدراسة ، وفي تلك النسوة ستجدون ما تبحثون عنه ، فهن جديرات بأن يكنّ شهيرات بلدنا ، لأنهن يهبننا أسباب السعادة . بهذا المعني يعد هذا المكتبي أيضاً جديراً بالشهرة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا أنه تم إغتياله بعد ذلك بقليل برصاصات المؤيدين للعسكر ، وما حدث له حدث لكثيرين من أهل البلدة . وبنفس المعني تعد مشهورة تلك المرأة التي وهبت للسيد جوزيه ، مؤلف "كل الأسماء"، أسباب السعادة ، بل و أسباب الحياة أيضا . ويعد مشهورا ايضا جوزيه نفسه ، جوزيه ساراماجو ، الاديب و الإنسان ، فهو سيد بمعني الكلمة ، خاصة لو وضعنا في إعتبارنا هذا التناقض الذي تحدث عنه ذات مرة قائلا " كُتّابي المفضلون سَفَلة بقدر كونهم إنسانيين " . ولعل أبرز ما نلاحظه في ساراماجو أنه يعيش ما يكتبه ويكتب ما يعيشه ، بعيدا عن هذا التناقض ، كما أنه واضح في حياته كما في كتاباته ، وهو نفسه مثل شخصيات رواياته ، يبدو كأنه أثر واضح للبشرية أمام العيون المتذبذبة الشرهة . و لعل أهم خصائص الرواية ، الرواية الناضجة ، هو تركيز الميكروسكوب الروائي علي الكائن البشري لنتعرف من خلاله علي أنفسنا ، علي هذا الكائن ، علي معني ما نفعله ، ولماذا جئنا لهذه الأرض ، وليس من السهل معرفة ذلك ، حتي أننا ننسي هذا السؤال عدة شهور ، أو ننساه دائماً ، وفي وسط هذا الشرود ، تقع في يدنا رواية تجعلنا نتبع آثارنا لنصل لذاتنا ، مثل الكلب يتبع قطعة الملابس ليصل للمجرم . هذه رائحة بشرية ، هذا ما يسوقنا إليه العمل الساراماجي ، فنسير وراءه ، نتبع خطاه ، ندخل في أزقته ، نري هالته المضيئة ، نواجه شراسته في الحق ونشعر بحجم ألمه ، بعيدا عن المجاملات و التملق وأراجوزات الكتابة ، والسير وراء المدعين . إن الشخصية التي يقدمها لنا هذا الكاتب تحمل في حامضها النووي الكائن البشري ، بصمته ، دمه ، أو كما يقول ريكاردو رييس في عام موته : " علامات إنسانيتنا " . حينئذ تؤدي كتابته للقاء هذا الرجل وهذه السيدة التي تم انقاذهما من الشرود ، أو ونفس الشيء يحدث مع " الكهف " وساعتها أسأل نفسي كيف تستطيع روايات هذا الرجل أن تصل لأقصي أعماق ذاتي ؟ فتأتيني الإجابة التي لا تتغير أبدا : لأنه رجل صادق ، يتميز نثره بالصدق وشعره بالجمال ، فيعود بنا إلي البيت ، بيت الإنسانية ، بيت الرجل والمرأة ، هذا المكان الذي تقبع فيه روحنا ، حيث يقترب كل منا من نفسه ، ويكتشف الركن الذي يناسبه في القصة ، فعودتنا للبيت تشبه عودته هو في " الذكريات الصغيرة " للبيت الجميل ، الأكثر حميمية وعمقا ، هذا البيت المدقع فقرا لجديه لأمه ، أو البيت الآخر الموجود في " حصار لشبونة " حيث يصير الحب ممكنا والسرير ينتظرنا بملاءات نظيفة . وفي البيت قد تجد أنواع الكلاب المختلفة ، تجد الكلب لقيط ، أو ثابت ، أو الكلب الذئب الذي يخيف زيزيتو ، أو ربما تجد الكلب العطوف الذي أبكاني في " البصيرة " وهو كلب الدموع . أشار ساراماجو ذات مرة ، في الإشارة إلي إيما بوفاري ، دون كيخوتيه ، جوليان سوريل ، أن هناك شخصيات أدبية أكثر حياة من شخصيات نعرفها في الواقع . والحق أنه أصاب ، فنفس الشيء يحدث مع جوزيه ، في انجيل المسيح ، هذا النجار المحمّل بالأحلام و الذنوب ، و جوزيه الآخر في كل الأسماء ، الذي عثر في الحب علي خيط ارديانا الذي وجب أن يسحبه من متاهة البيروقراطية و بئر العزلة ، والطفل جوزيه في الذكريات الصغيرة ، حيث يجلس علي ضفاف النهر ليصطاد الصور و الأصوات و الروائح و الذكريات و المشاعر ، فيظهر صدي هذا في رواياته . تأخذنا الرواية الساراماجية دائماً إلي ما هو إنساني ، بعيداً عن روايات البيست سيلر وسوق التسلية التي ظهرت وازدهرت في ظل الديمقراطية اللايت ، تلك الديمقراطية المعكوسة في " البصيرة " . ووسط هذا التردي يأخذنا ساراماجو لأدب عظيم ، أدب يتميز بالكرامة ، فلو نظرنا لمجمل شخصياته سنجدهم كالقبيلة الواحدة التي يشترك أفرادها في صفة الكرامة . فسلوكهم بدءً من الأفعال التقليدية ، " يتبول ، يأكل ، يشرب ، يعمل ، يستريح " تكتسب كرامة وعظمة لأنه يعيد خلقها ، هذا الخلق الذي يسمح له أن يجمع أجزاءهم المتناثرة . أما رؤيته هو لهذه الشخصيات فهي بعيدة كل البعد عن الرؤية الجزئية ، فتتميز بالشمولية ، كما لو كان عندما يكتب عنها لديه عقيدة راسخة أن كل شخصية تمثل في الواقع قصة الإنسانية جمعاء ، رجلا كان أم إمرأة . أما قصص الحب عنده فهي قصة الناس أجمعين ، قصص خالدة خلود روميو وجوليت ، فمن ينسي دومينجو وسارة في " ثورة الأرض " ، أو جيرونيمو و جوزيفا في " الذكريات الصغيرة؟ " وبرغم أن بطله رجل ، إلا أن صورة المرأة في عمله صورة مضيئة ، فهي دائما الحكيمة ، الكريمة ، المتفتحة ، الواقعية . كما أنه لا يبذل جهدا ليجدها ، فهي تقفز دائما في رأسه ، " عندما أبدأ في كتابة رواية ، لا أقول لنفسي إنني يجب أن أخلق امرأة بارعة ، فهي تظهر وحدها من الأحداث التي أرويها " . وعلي كثرة النسوة في أعماله ، تعد أعظمهن ماريا في " إنجيل المسيح " ، تلك الأم التي يجب عليها أن تحتمل في صمت الحب و الألم الذي تشعره نحو وليدها ، إنها إمرأة صغيرة تنضج فوق نيران الواقع ، تودع إبنها بلا إبتسامة وبلا وعد بالعودة ، " لم تصلني اخبارك قالت ماريا أخيرا وحينها هربت من عينيها الدموع ، كان ابنها البكري يجلس أمامها ، فتي طويل القامة ، بملامح وجه اكتملت رجولته ولحية نابتة ، وبجلد أسمر كما لو قضي حياته تحت الشمس ، بوجهه للريح و لرمل الصحراء " . هذه المرأة التي تحمل إبنها ميتا بين ذراعيها لشديدة الشبه ببلدي ، بقارتي ، بهذا العالم الثالث الذي أنتمي إليه ، بأفريقيا كاملة ، وصولا للعراق و فلسطين و لبنان ، فكلهن أمهات تهبن أولادهن الحياة ليأتي الموت ليقصف أعمارهم . أمهات يدفنّ أبناءهن بدلا من حدوث العكس . إن الموت عجوز فوق سريرك صار حلما صعب المنال . ساراماجو أيضا كاتب كلاسيكي عندما يخلق رجلاً يسيطر علي إرادته الخاصة وعلي ضميره ويمتلك بين يديه زمام أمره ، إنه الرجل الذي يعارض الظلم و يحرك إرادة المقاومة والتغيير، رغم أنه لا يحقق ذلك دائماً . وبينما يقع الرجل دائما تحت التهديد ، يهاجم ساراماجو بشراسة ما يلغيه ، ما يؤذيه ، ما يستعبده ، وهو في ذلك كاتب شجاع ، في الحياة و العمل ، يضطرنا أن نظل بعينين مفتوحتين أمام ضغائن السلطة ، التي قال عنها إنها فاسدة ، وإن السلطة المطلقة لفساد مطلق ، لكنني أضيف أن السلطة لا تحتاج أن تكون مطلقة لتصير فسادا مطلقا. ولعل لهذا السبب نجد فكرة الحصار بارزة في أعماله ، ففي "العمي" نجد العميان محاصرين كما لو كانوا يعانون من مرض معد ، وفي " حصار لشبونة " يموت المسلمون محاصرين ، وفي " البصيرة " تحاصر العاصمة لأنهم أدلوا بأصوات بيضاء ، وفي " ثورة الارض " يحاصر الفلاحون بالفقر من قبل الإقطاعيين ، وفي " الكهف " يجد الفخاري نفسه محاصرا من المركز التجاري . وهكذا نجد الذين يفرضون الحصار ويشدون أحباله في صورة كائنات قبيحة ، غير إنسانية ، فهم يحيكون الكوابيس ويخلقون المتاهات . وأخيرا ، قد نجد عنصراً بين العمل الكافكاوي و الساراماجي ، هو التشاؤم . والحقيقة أنه ليس تشاؤماً ، إنما الواقع المحزن الذي يغزونا فينطبع في صفحاتهم ، صفحة وراء أخري ، لكن الحق أن هناك فرقاً شاسعاً بين كافكا و ساراماجو ، فالأول يخلق شخصيات تختنق وحدها وتكافح وحدها ضد ما يخنقها ، بينما نجد في شخصيات الثاني روح التضامن و التعاون من أجل المقاومة . هل هو المعتقد السياسي ؟ نعم بالطبع ، إنه المعتقد السياسي المطبوع في كل أعماله. كما أن شخصيات ساراماجو تبذل ما في وسعها للحفاظ علي نفسها مخلصة لمبادئها ، وهو ما يجبرها علي التحرك ومكافحة عالم كابوسي ، فيعطيها ذلك طابع المغامرة . بينما لا نجد ذلك عند كافكا ولا تيار ما بعد الحداثة . بمعني أدق الإلتقاء مع أنفسنا ، صفحة بصفحة ، فنشعر شعورا حميميا ، مريحا ، يجعلنا نلتقي بأحزاننا ، فتهرب من مآقينا الدموع . و الحقيقة أنني كلما قرأت " إنجيل المسيح " أبكي بكاءً حاراً ،