يتجمع الإخوان سنوياً في يوم الثلاثين من يونيو من كل عام، ويسترجعون جميعاً تفاصيل فقدان الزعيم الخالد محمد مرسي العياط. يمر علي فقدانه اليوم ثلاثون عامًا، ويبدو أن الإخوان سيستمرون في الاحتفال بالذكري إلي الأبد. يظل غياب مرسي لغزاً محيراً، الرواية الرسمية تقول إن السجّان أغلق باب زنزانته بإحكام في المساء، وعندما عاد في صبيحة اليوم التالي ليقدم له طعام الإفطار، وجد الزنزانة خالية. لا زالت الصور الفوتوغرافية المسرّبة للزنزانة والتي التقطها مصور النيابة ماثلة في أذهان الجميع؛ ضوء شحيح يدخل من نافذة الزنزانة، سجادة صلاة مفرودة علي الأرض، تميل نحو اليسار قليلاً، سبحة منفرطة الحبات ملقاة علي السجادة، ومصحف مفتوح، لا تظهر الآيات من خلال الصورة، لكن الإخوان بعد حسابات معقدة استطاعوا التوصل للصفحة وبالتالي السورة والآية. أكد الإخوان أن المصحف كان مفتوحاً علي الآية: "بل رفعه الله إليه". لكن الأدبيات الإخوانية السرية تحكي حكاية مختلفة، تقول إن مرسي قد هرب بمعاونة خلية إخوانية في مصلحة السجون، وإنه الآن في مكان آمن، يتقلد منصبًا مستحدثًا في الجماعة، "رأس الهرم" في إشارة للحكمة الأبدية التي يتمتع مرسي بها. في كل عام، يحتل الإخوان، ومن يحبونهم، ميدان رابعة العدوية في مدينة نصر، ويقيمون منصة ضخمة في وسط الميدان، ومنصات أخري صغيرة في أطراف الميدان، ويبدأون في الطقس الشهير ب "المراسي" حيث يعيدون تشخيص الأيام السابقة والتالية ليوم الثلاثين من يوليو عام 2013. وكذلك أحداث الانقلاب العسكري، وأحداث فض اعتصام رابعة، بواسطة ممثلين محترفين أحياناً، وبواسطة هواة في الأغلب. يرافق عرض "المراسي" عروض أخري للأراجوز ولخيال الظل، وهناك بالطبع الفقرة الشهيرة، حيث يظهر اسبونج بوب علي المسرح لينشد النشيد الأممي الشهير: "أنا إسبونجي بوب". بينما يتردد الهتاف الشهير كل عدة دقائق في الميدان: "مصر إسلامية" فتردد الجماهير في حماس الهتاف الخالد وهي فرحة. وكالعادة، يصمت الجميع بينما يتابعون "المرسية" الرئيسية، حيث يظهر ممثلون يضعون علي وجوههم أقنعة خفيفة، تمثل الشخصيات التاريخية التي اشتركت في أحداث عام 2013، قناع مرسي الشهير، وهو صورة فوتوغرافية لوجهه مبتسمًا، وقناع للفريق أول عبد الفتاح السيسي، وهو صورة فوتوغرافية شهيرة أيضًا، لكنها معدّلة فوتوشوبيًا، تظهره بأنياب طويلة كأنياب الكونت دراكيولا، والدماء تسيل من فمه. يتابع الجميع "المرسية" في صمت، وينتظرون الجمل الشهيرة الخالدة؛ مرسي علي المسرح وهو يقول للسيسي: "الشرعية يا سيسي." فيرد السيسي: "أنا متآمر لكني لستُ أهبلاً." فيضحك الجمهور بحبور بالغ. ثم تأتي اللحظة التي يدمع فيها الجميع، حينما يقوم السيسي بإمساك كتف مرسي وهو يقول له: "أعلم أن هذا سيؤدي بي إلي النار، أعلم أنك الرئيس الشرعي، ولذلك أرجو أن تشفع لي يوم القيامة." فيرد مرسي وهو يربّت علي كتف السيسي: "لك ذلك يا بُني، لولا التسامح لهلك الخلق كلهم." هذه لحظة مؤثرة فعلًا. تستمر "المرسية" حتي تصل إلي لحظات النهاية، وهي لحظات تشخيص فض الاعتصام، ولا يمكن وصف هذا الجزء المحبب إلي نفوس الإخوان بالكلمات بل يجب حضور "المرسية" للاستمتاع به. ينفضّ الجمع بعد عدة أيام تدريجياً، وكل من الإخوة يودع أخاه علي أمل في لقاء بعد عام كامل، كلٌ يرفع كفه بالإشارة الشهيرة "إشارة رابعة" كفٌ مفرودة الأصابع عدا الإبهام، ينطبق علي باطن الكف. تلك الإشارة التي تستند إلي كف جبريل عليه السلام، حينما قام بحماية الجمع الرابعي من الإبادة، وترك البعض يقتلون حتي لا تحدث فتنة. هذا العام، قطع سياق المشاهد المعتادة حدثٌ جلل. فأثناء عرض "المرسية" علي المسرح الكبير، صعد أحد الحاضرين إلي المسرح. ورفع ذراعه مطالباً الجميع السكوت، الجمهور والمشخصاتية والمخبرين المنتشرين بين الجمهور، فتوقف المشخصاتية عن التشخيص. وتعلقت أنظار الجميع بالرجل ذي العينين الضيقتين، الذي قال في هدوء بالغ: "أنا علي تاياماكا من اليابان، وهذه هايكو من أجل مرسي" ثم أنشد: "شعاع الليزر يضرب بطن المروحية بينما تذبل البتلات فوق آكام الذهب الزمن يمر كالسهم المنطلق من قوس مشدود لكن الشرعية تظلّل الأزل والأبد." سادت فترة صمت قصيرة، في الأغلب لم يفهم واحدٌ من الحاضرين ما قاله تاياماكا الياباني، حتي أن أحدهم هتف من وسط الجماهير: "الترجمة لو سمحت" وتجرأ آخر بعده فقال: "إنت تعرف أوشين؟" ثم انطلق الجمهور في ضحك هيستيري، وقد تأكدوا أن ظهور الرجل الياباني ما هو إلا خدعة قام بها القادة كي يخففوا عن الإخوان الدراما العظيمة المُشخصة علي المسرح في ذلك اليوم المهيب. بعد دقائق اختفي تاياماكا الياباني من علي المسرح، ومر اليوم بسلام. لكن يبدو أن قادة الإخوان قرروا أن ما حدث أمرٌ مهم، ورأوا أن ظهور تاياماكا يجب استغلاله أفضل استغلال. ولهذا، طلبوا عدة تسجيلات للحدث الكبير، كي يتمكنوا من تدوين قصيدة الهايكو من أجل مرسي. وبالفعل، استطاعوا بعد مجهود قليل تدوين القصيدة كاملة، وبعد فترة قراءة مدققة وجدوا أنها تحمل نفس الرسالات السامية التي يحملها الفكر الإخواني، كما أن بها لمسة إسلامية تتمثل في البيت الأخير. وطلب أحد القادة من ابنه، الخبير في سؤون الإنترنت، البحث عن معني كلمة هايكو، وإن كان لها علاقة بفيروسات الكمبيوتر، لكن الإبن البار أكد أنه نوع من الشعر الياباني الرقيق. وعندما وجدوا أنها قاصرة ولا تصف ما حدث بالضبط، قرروا إضافة البيت الآتي إليها: "والحصان الصغير لا يجد من يركبه." وهكذا، قرر القادة أن يتم نشر هايكو من اجل مرسي بين الإخوة، وأن يتم حث الإخوة علي تدبرها وحفظها في قلوبهم. واليوم، وبعد شهور قليلة من ذكري 30 يونيو، تبدو القصيدة أكثر انتشارًا بين الجيل الجديد من الإخوان، هذا الجيل المتمدن المتطور، والذي قال جملته الشهيرة "المرشد مش أبويا" في إشارة واضحة لرفضه الوصاية حتي من المرشد العام للإخوان المسلمين. وقد خطي جيل "الصحوة" خطوة رائدة جديدة، فقام مبدعوه بتأليف قصائد هايكو أخري علي نمط قصيدة تاياماكا الأصلية، لكنها بالطبع لم تكن في جودتها ولا في عظمتها. تبقي قصيدة "هايكو من أجل مرسي" علامة مميزة في الأدب المصري الحديث. وحجر زاوية في الشعر العالمي، ورأس حربة جيل "الصحوة" الإخواني الجديد.