لن يمر حادث القرصنة والقتل الوحشي لمتطوعي السلام في عرض البحر سهلاً علي الضمير العالمي، بصرف النظر عن الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الحكومات والمنظمات الدولية، حيث تتحكم المصالح لا الأخلاق في العلاقات بين الدول. وكل قرار تصويت في محفل دولي تحكمه حسابات الدولة المصوتة مع إسرائيل وحساباتها الداخلية أيضًا، من حيث وجود أو غياب جماعات الضغط الصهيونية المسيطرة في مجالات حيوية مثل الإعلام. وقد قامت إسرائيل منذ زرعها في أرض فلسطين بتثبيت أقدامها عبر الوحشية والترويع وتمويه المكان الفلسطيني بتغيير المعالم والتسميات وفي الوقت نفسه تصدير خطاب الضحية إلي العالم، وكان هذا الخطاب مقبولاً حتي وقت قريب، بدعم شديد من الإعلام الدولي الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، ليس فقط بتمرير المقولات الإسرائيلية وإنما برواية القصة من آخرها، بحيث لا يعرف المواطن الغربي إلا عن تفاصيل معركة في غزة تبدو ردًا علي تفجير أتوبيس أو إطلاق صاروخ بدائي يترنح في الهواء ويسقط بلا ضحايا. تلقت إسرائيل الدعم أيضًا من خطاب عربي وفلسطيني متباه بقوة غير موجودة، وتلويح بدمار إسرائيل الذي لا نقدر عليه! الآن اختلفت الأوضاع وأصبح هناك ضحايا للوحشية الإسرائيلية من غير العرب والفلسطينيين، وأصبح لعب دور الضحية من الإسرائيليين مكشوفًا، وقد كانت ادعاءات نتانياهو ضد قافلة السلام مثيرة للسخرية إلا في أوساط الأقلية الصهيونية الداعمة لوحشية الإسرائيليين. وهناك لحسن الحظ متغير لم يكن في حسبان المحتلين هو الإعلام الجديد الذي أتاح حرية التدوين علي الإنترنت بالإضافة إلي إمكانيات تعليق قراء الصحف والقنوات التليفزيونية التقليدية في مواقعها الإلكترونية. لم تعد الرواية الإسرائيلية هي المسيطرة كما كانت طوال الوقت السابق من تاريخ الدولة العبرية القصير، ولكن هذا ليس كل شيء. علينا أن نسأل أنفسنا: أين روايتنا الخاصة؟ أين وجهة النظر العربية حول هذا الصراع الذي فرضه الغرب علينا ليؤلمنا ويعطل نمو بلادنا؟ ولنا أن نتأمل السرعة المذهلة التي وصلت بها مقالات الإسرائيليين إلي الصحافة في بلد مثل إيطاليا، بينما لا يكاد القاريء الأوروبي يقع علي وجهة نظر عربية في الموضوع. من الضروري أن نساعد الرأي العام العالمي علي الفهم، ومن الضروري أيضًا أن تكون هناك إجراءات وجهود ثقافية من أجل تثبيت الحق الفلسطيني، في مواجهة تزييف الذاكرة الذي يمارسه الإسرائيليون في شكل إجراءات علي الأرض وخطاب مغلوط موجه إلي العالم وإلي العرب أنفسهم. وقد آن الأوان للانتباه إلي فلسطيني الخط الأخضر (وليس عرب إسرائيل لأن هذه التسمية الملغومة تستهدف طمس تسمية الشعب الفلسطيني) لابد من الاهتمام بهؤلاء بعد طول تقصير في حقهم، حيث كان حمل الجنسية الإسرائيلية في يوم من الأيام مبررًا للتجاهل خوفًا من الاتهام بالتطبيع. وربما يكون إنهاء الانقسام الفلسطيني وإنهاء استئثار حماس بغزة شيئًا فوق طاقة المثقفين، لكن في المقابل لابد من رفع الأصوات المدنية وإثبات الحقوق الوطنية والإنسانية لكل سكان فلسطين، في مواجهة تديين الصراع الذي مارسته الفصائل الإسلامية، ولم تكن غير بعيد عن رعاية الإسرائيليين؛ فالدولة التي قامت علي أساس مزاعم دينية يسعدها ويدعم وجودها أن تكون المقاومة التي تواجهها دينية أيضًا، فيبدو الأمر تصادمًا بين الأديان، والأمر أبعد ما يكون عن هذا. علي أرض فلسطين شعب يعاني، له حقوق إنسانية أبسطها العيش في أمان. والشعوب العربية ليست مفارخ للمتشددين الدينيين. هنا بشر يتطلعون إلي الحياة لا الموت، لكن وحشية الاحتلال تمنعهم من ذلك. وقد بدأ العالم يعي هذه الحقيقة، بدليل هذا العدد من المتطوعين الذين يمدون أياديهم للمحاصرين في غزة بصرف النظر عن شكل الحكم فيها. وبقي علي المثقفين العرب أن يفعلوا ما عليهم فعله. " أخبارالأدب"