في الحالة الإبداعية للروائي محمد جبريل يصعب وضع حد فاصل بين النص الروائي فى عالمه وبين سيّرنة هذا النص، إذ أن الحالتان ممتزجتان فى العديد من جوانبهما، كما أن عنصر الالتباس يكاد يفرض نفسه على هذه الحالة الروائية المطروحة أمامنا بجميع مقوماتها. فهو فى كتاباته السيّرية فى »حكايات من جزيرة فاروس«، و«الحياة ثانية»، و«مد الموج»، ثم فى «كوب شاى بالحليب» نكاد نستبين نصوص ملتبسة تتأرجح ما بين السيرة الذاتية والروائية لها ذائقتها الخاصة، ولكننا أيضا نجد واقع السيرة الذاتية كما حددها كل من فيليب لوجون، وجورج ماى فى تنظيراتهما حول هذا الفن تمتزج فى بنية هذه النصوص، كما أن أعماله الروائية الأخرى نجد فيها أيضا شخصيته الذاتية قد تكون مضمرة داخل بنية النص، وأحيانا أخرى تكاد تفصح عن نفسها تماما. فى روايته «كوب شاى بالحليب» تظهر فى بنية النص علامات تدلل على أن معمار هذا النص يأخذ من النص السيّرى ليمتح فى الواقعى الآنى، ويحدد وقائع رواية سيّرية تمتزج فيها أبعاد الواقعى مع هواجس المتخّيل فى رؤية وتجربة مضافة إلى هذا العالم المجسد للتاريخ الإجتماعى لشخصيات الكاتب المستعادة فى معظم نصوصه تقريبا، فالسرد قد جاء فى هذا النص بضمير المتكلم، والشخصية واضح من تركيبتها الأساسية وبواكير ممارساتها داخل النص تبحث لنفسها عن مكان فى هذا العالم منذ أن وعت أن عالم الصحافة هو عالمها الخاص، وهى سمة تكاد تتطابق مع تجربة الكاتب الذاتية تماما، كما أن المكان الجديد الذى بدأ يبحث لنفسه عن موضع قدم فيه كان هو الآخر غير المكان الأصيل لعالمه وهو الإسكندرية، أى أنه قد ترك الإسكندرية ليمهد لنفسه طريقها إلى المختبر الجديد، مختبر الصحافة وبونها الشاسع. كما أن وجود بعض الأسماء فى عالم الصحافة مثل سعد الدين وهبة، وأحمد عباس صالح، ونعمان عاشور، وطوغان، والذى جاء ذكرهم فى سياق السرد قد أصل أيضا هذا البعد السيّرى، وحدد من خلاله البعد الرئيسى لهذا الجانب لإرتباط هذه الشخصيات بالذاكرة الجمعية فى عالم الكاتب المبكر. إضافة إلى أن الأحداث السياسية التى صاحبت تواجد الراوى فى القاهرة فى ذلك الوقت، والمرتبطة بالوحدة بين سوريا ومصر هو نفس الزمن الذى بدأ به الكاتب حياته العملية وهو نهاية الخمسينات من القرن الماضى. لذا نجد أن الواقعى التاريخى فى حياة شخصية سمير دسوقى فى رواية «كوب شاى بالحليب» هو نفسه البعد السيّرى الذى يرويه الكاتب على لسان الراوى – الذى يمثل الكاتب – وسط هذا الكرنفال الإنسانى السائد فى أرجاء البنسيون الذى أقام فيه بالقاهرة وسط لهجات مختلفة، وأنماط متباينة من البشر، ووجهات نظر متعددة تضطرب معها علاقات المعنى والقيمة. ولا شك أن البناء الذى أنتجه الكاتب تتبدى فيه التقنيات الروائية المعروفة، ويلتقى فيه الواقع بالمتخيل، والممكن بالمحتمل، والرصد بالتنبؤ، والتحليل بالتركيب، كل هذا يخرج من دائرة البطل الذى يدفعه الحاضر ليسترجع ماضيه، خاصة بواكير تجربته الأولى فى الحياة العملية بكل ما تحمل، فى بنية سردية سيّرية ولكن من منظور روائى. استخدم محمد جبريل فى روايته «كوب شاى بالحليب» تفاعلات الواقعى بالمتخيل، فى إقامة سرد سيّرى حمل فيه من رواية السيرة الذاتية، وتجربة الإعترافات، ورواية الروائى، إضافة إلى زخم من الشخوص لها تفاعلها الذاتى والكيميائى، فالكاتب فى هذا النص يكتب عن الآخرين، باستفاضة ملفتة، ثم نكتشف أنه يكتب عن نفسه، ويؤوّل لمرحلة اجتماعية وسياسية وثقافية ذاتية وعامة فى نفس الوقت يمتح منها وينهل فى معين سردى وروائى منحه هذا العنوان البسيط الدال والمعبر ذات الواقع والمتخيل فى نفس الوقت. ولعب الواقع المسيّس دورا أساسيا داخل النص فى بلورة قضايا وإشكاليات فرضت نفسها على هذا الواقع من خلال تنوع الشخصيات، حيث يبدو الواقعى المسيّس فى حوار الشخصيات ومناقشاتهم حول ما يدور فى قضايا الساحة من صراعات سياسية وأيديولوجية خاصة ما طال منها موضوع الوحدة بين سوريا ومصر، والحالة الرافضة هناك فى (الأقليم الشمالى) سوريا للقيود الجديدة المستمدة من واقع الحال فى (الإقليم الجنوبى) مصر. ولعل الإفصاح عن أسماء الضباط السوريين الذين بادروا بالإنفصال، والآلية التى نوقشت بها هذه القضية كانت واضحة فى تحديد هذه الرؤية، كما أن الحوار الذى دار بينهم حول العديد من القضايا التى من بينها القضايا السياسية الساخنة يضفى على بنية النص بعدا تمهيديا لما سيسفر عنه الفعل الروائى بعد ذلك. ولعل المواقف الجنسية كانت هى الطرف الآخر من الخيط والمكمل للمواقف السياسية الدائرة على الساحة والتى تشغل بال سكان البنسيون خاصة فى أوقات المساء، باعتبار أن القضايا المطروحة، الجميع طرف فيها من بعيد أو قريب. كما كان الجنس وتوابعه فى البنسيون يرمز أيضا إلى الطبيعة الإنسانية الباحثة عن المتعة الشبقية، بجانب البحث عن متعة المناقشة والجدل حول القضايا السياسية الساخنة، والقضايا التى تشغل بال العامة والخاصة فى ذلك الوقت. ومن ثم كانت السياسة والجنس وتوابعهما فى البنسيون يرمزان إلى أنهما وجهان لعملة واحدة داخل هذا المكان وأن من يتعاطى السياسة ويدلى فيها بدلوه هو الذى يدلى بدلوه أيضا فى دوامة الجنس، وضبابيته المسيطرة على واقع المكان الرامز إلى الواقع العام. ولعل تسييس الواقع داخل النص وبلورة المتخيّل فى تأصيل واقع كل شخصية قد أعطى النص مواقف متشابكة ومتداخلة، فالشخصيات المتحررة من قيود التركيب والمتواجدة فى ساحة البنسيون ترمز إلى الرأى العام الذى يرزح تحت وطأة وأثقال المغيبّات بأنواعها المختلفة، وقد كان الجنس وجدل السياسة هما أهم أنوع هذه المغيبّات. وإذا تتبعنا ملامح الأيروسية عند هؤلاء النزلاء نجد أن المكان والزمان كليهما كانا يعبران عن هذه الأيروسية دون مغالاة، ودون مبالاة أيضا حتى أن صاحب البنسيون نفسه عندما حضر إليهم فى زيارة روتينية لم يعر مظاهر الجنس التى سمع عنها أى شئ، إنما كان همه أن الحديث عن أن السياسة هو الممنوع فى البنسيون، ذلك أن الجميع كانوا يعيشون الجنس من خلال الواقعى والمتخيل فى آن واحد، بما فيهم «عنابر» المرأة التى تقوم على خدمتهم، هم يمارسون الجنس بواقعيته المعهودة، ولكنهم ينفذونه بمتخيلهم الخاص وطبيعتهم الذاتية. من هنا نجد أن القدرة التخييلية لأسترجاع الواقعى فى روينّة السيرة تجرنا فى بعض الأحيان إلى الإحساس بهذا الواقعى الذى ولى، ومضى، وكأنه حقيقة آنية نراها الآن، ونشعر بها ماثلة فى أذهاننا، بينما هى فى الحقيقة منطقة موجودة فى اللاوعى تبدو وكأنها ذات قدرة على التشكل والتلون والظهور مرة أخرى بمظهر مغاير لما كان يدور فى المخيلة الآن وفى متخيل زمن ولى ومضى، وأن محاولة استعادتها مرة أخرى، ومعاودة إسترجاع أحداثها التى مرت عليها سنوات طويلة، يجعل التلاحم بين الواقعى والمتخيل مؤسسا لواقع جديد هو لا شك واقع إبداعى آنى له آليته الخاصة، قد يختلف عن الواقع الواقعى فى أنه مشحون برؤية فردية أو جماعية خاضعة لقوانين المكان والزمان فى شكلها الذى ينتسب إلى التجربة الروائية فى شكلها السيرى.