وحده الشاعر يلهو بالظلال معلنا رحلته بين أصداء الموسيقي الحيّة....... لذلك أجد الشاعر » شمس الدين العوني« في ديوانه » تحت شمس وأزمة الظلال«يستحضر أزمنة مختلفة وتواريخ مختلفة.. وان كان يقول» وحده الزمن يقتل الانسان« علي اعتبار أن الزمن هو الذي يأتي علي الانسان فيتهالك هذا الأخير وتستنزف طاقته ويهرم تدريجيا و يتحول من القوة الي الضعف ومن القدرة الي العجز. ومن الثابت الي المتحوّل يهدّه المرض و تنخره الآلام .. ثم ان الزمن هو الذي يمتحن الأفكار الكبيرة و المشاريع الجميلة التي عادة ما تنشأ و تشتد في مسار محدد ثم تتآكل وتنهار في آخر.. وربما لذلك انتهي الي فلاسفة التاريخ وعلماء المجتمع الي ضبط قواعد علمية تحتكم اليها الظاهرة الانسانية كالقول »بالحتمية التاريخية »عند ماركس أو القول« »بالحتمية النفسية« عند فرويد وغيرهما ... لعلّه في الأدب يجمع علي انه لا كتابة موضوعية و بالتالي لا قراءة محايدة .. فكل كتابة تقول ذاتها وكل قراءة تنحاز ضرورة لنوع من الجمالية التي يؤمن بها القارئ أو الناقد .. وان كنت لا اجيد ابدا دور الناقد وانما أجتهد أن أكون قارئة تحاول الكتابة عما يروقها ولعله لذلك يصعب كثيرا الكتابة عن صديق .. فأنت عندما تقرأ له تمتحن مدي صدقك في تتبّع بقع الجمال التي يخلّفها هذا الصديق .. ولا يمكن مهما كانت مكانة ذلك الصديق عندي أن أنحاز لصداقتنا الجميلة .. سأخاتل هذه العلاقة الانسانية و الأدبية وأقرأ له بقلب شغوف بالجمال. لا أخفي صعوبة أن أقرأ لصديق .. حتي وان كان ذلك لشمس الدين العوني .. رجل توغل كثيرا في ذاكرتي .. ومازلت اذكر كيف كنّا نجتمع مجموعة من الشباب في النوادي الثقافية وخاصة نادي صلاح الدين ساسي للشعر في سيدي البشير بالعاصمة تونس نتحلّق حول قصائدنا الطريّة و نتحسّس جسد اللغة بقلوب واجفة.. يا الهي كأن ذلك البارحة .. لكن هذه البارحة مرّ عليها عقدان ولازال يشدّنا شغف القصيدة.. ومازال الشاعر التونسي شمس الدين العوني عاشقا للقصيدة.. يقترب منها واجفا وتتوغل فيه بعمق .. مازال يجرّب قصيدته و قد أصدر الي حدّ الآن أربع دواوين وفي كل مرة يغادر المجال الحيوي للشعر يعود منتصرا.. في كل مرة يصدر ديوانا يحتفي به النقاّد و لكن شمس الدين العوني ينسي انتصاراته الابداعية ويعود الي القصيدة يفتضّ دهشتها بشغفه المتّقد واحساسه الرهيف . آخر ديوان للشاعر التونسي شمس الدين العوني بعنوان »تحت شمس وارفة الظلال« ورد في كتاب متوسط الحجم تتصدّره لوحة تشكيلية للرسام التونسي محمد فنينة .. في اللوحة تبدو الألوان نارية تتصاعد في شكل خطوط حادة تمثل كتل لهب حامية ولعلّها تتناسب و عنوان الديوان الذي يرد في شكل جملة : »تحت شمس وارفة الظلال« عادة عندما يصوغ الشاعر عنوان ديوانه في شكل جملة فكأنه يريد أن يقول ما يعتمل لديه دفعة واحدة و ما يريد أن يقوله الشاعر انه تحت هذه الشمس الملتهبة الحامية الحادة هناك أشجارا كبيرة تمنح لمستجيريها ظلالا وارفة لعلّ هذه الأشجار هي في الحقيقة قصائد يحتمي بها الشاعر من لهيب الوقت وحرارة المكان. دفء الأمكنة لعلّ أهم ما شدّني في قصائد الديوان.. أنها تعبّر عن قدرة الشاعر علي التطور ولعل معرفتي بالبداية الشعرية - رغم انها محترمة - الا أنه اسمح لي فعلا أن ألاحظ ان شمس الدين العوني قد استوت لديه القصيدة بشكل اكثر جمالية وأشدّ حرفية. علي امتداد قصائد الديوان ألاحظ ان الشاعر شمس الدين العوني قد جعل قصائده موائد يتحلّق حولها أصدقاؤه يستحضرهم حول نسيج من المعاني فيجمع حوله شعراء ورسامين وعازفين ومغنين.. بينهم الأحياء والأموات.. نساء ورجال ولكن الخيط الناظم الذي يجمع بينهم جميعا أنهم مبدعون.. شغوفون بالجمال مهووسون بالقيمة الجمالية .. تماما مثلما كنّا نتحلّق حول موائد الشعر بنادي صلاح الدين ساسي للشعر في دار الشباب بسيدي البشير .. كنّا مجموعة من الشباب الشغوفين بالقصيدة نلتقي صباحات الأحد نتملّي ما خلّفه كبار الشعراء من خطي شعرية باذخة البهاء .. ونتحسّس أجساد قصائدنا الطريّة... كان شمس الدين العوني يشدّه الحنين الي مرحلة هامة من الصبا فيستعيدها بطريقة أكثر حرفية وأشدّ حميمية ولذلك نجده يستقدم الي ملتقاه الشعري في هذا الديوان من أصدقاء المرحلة الشاعر نورالدين بالطيب و من خارجها الشاعر المخضرم خالد النجار وغيره.. كما يستدعي الشعراء العرب مثل محمد علي شمس الدين وسركوس بولص و جميل حمادة ومن غير العرب البرتغالي نينو جوديس الخ.... والي جانب الشعراء يكرّم شمس الدين العوني الرسامين وهم أصحاب مدارس فنية مشهورة عالميا مثل نجا المهداوي و نجيب بلخوجة ... فكان الشاعر شمس الدين العوني بذلك يوحّد بين الثقافات المختلفة و الحقول الابدعية التي ينتسب اليها الشعراء ويقضي علي المسافة الزمنية والاختلاف الحضاري وتنوع رؤاهم الابداعية ليؤكد علي ان القاسم ابداعي بالأساس .. كأنها طريقة شمس الدين العوني ليقفز علي صراعات العالم وصدام الحضارات وانتشار الارهاب وفوضي العالم .. ليقول أن ما من طريقة لتصالح اخوة الانسانية الأعداء للتقريب بين الشعوب المتنافرة.. غير محبة الجمال و الايمان بالقيم الانسانية الرقيقة التي يدافع عنها المشروع الابداعي بمختلف أنماطه.. شمس الدين العوني.. يؤكد علي وحدة الانسانية من خلال طبيعة التيمات التي يشتغل عليها والتي تتغنّي في مجملها بقيم التسامح والاعتراف المتبادل والغاء الحدود.. ان في الثقافة أو في الجغرافيا أو في الزمن ولعلّه يعتقد ان أهم من يمثّل الانسانية هم مبدعوها الذين يخلفون الأنبياء في الدفاع عن القيم النبيلة والاحتفاء بالجمال. وكان شمس الدين العوني بذلك يبدو افلاطوني النزعة من حيث تمجيد المبدعين وتنزيلهم المكانة الأرقي في بناء قصائده.. يستحضرهم كما تستحضر الأرواح الطيبة ويحتفي بهم كما يحتفي بآلهة اليونان .. ويجعلهم الناطقين بما لها من القيم الجميلة كما الأطفال.. مواجهة الدمار »كشأن الكتّاب الذين ينبضون بواقعهم يقول الشاعر شمس الدين العوني في قصي« في مقهي القشّاشين ( ص 39 ) : نعم ... لقد تغيّر كل شيء و عاد الصمت الموحش و الفوضي الخلاّقة انطلاقا من هذه اللحظة التاريخية التي تضبط بدقة ما يحدث الآن وهنا .. في هذه المرحلة التاريخية و في الأرض من زحف للعولمة بما هي منظومة سياسية واقتصادية اجتماعية و ثقافية وتنبئ بثوب جديد لاستعمار البلدان الضعيفة واستغلال ثرواتها والاعتداء علي ثقافتها .. يحدد الشاعر موقفه من خلال الكائنات الابداعية التي يجعلها أبطال قصائده لذلك يقول في قصيدة »تفاصيل استثنائية« موجها قصيدته الي الرسام التونسي لمين ساسي : لماذا يتأوّه الرّسام المبتسم، المثرثر، الصموت ، الهائج الساكن , المتأمل ... العاشق ، الحائر، الواقف، القلق نلاحظ ان النعوت التي يصف بها الرّسام هي في الحقيقة حالات الانسان المختلفة ذلك الذي تتغيّر تعبيراته بتغيّرات وضعياته في العالم .. وفي مختلفها يعبّر عن انسان يتفاعل مع واقعه في صمته أو قلقه أو سكونه أو حيرته ... لذلك نجده يقول : صمتك هذا ام ترجمان اللغة والأرض تعوي بالخراب .. بالأصوات الغريبة .. بلهاث المعني حيث لا معني لغير الدم. اذن نفهم ان صمت الشاعر هو في الحقيقة صرخة مدوّية تجاه الرداءة و»الفوضي الخلاّقة« لذلك سيخرج من هذا الصمت »صوت يعلو في الهشيم« و يأخذ الشاعر مهمة مواجهة هذا الدمار الهائل في الأرض وركام الفساد والظلم يقول في قصيد مهدي