لم أستطع منع نفسي من التفكير ملياً وعقد مقارنة لا تخلو من التساؤل بين حدثين فكريين دينيين وقعا في صعيد مصر. الحدث الأول في سمالوط بمحافظة المنيا فقد اتخذت مطرانية سمالوط خطوة مثيرة تتسم بالجرأة حين قامت بعرض كتب دينية مسيحية كانت ممنوعة كنسياً ضمن معرض الكتاب الكنسي الخامس الذي أقامته المطرانية. بمحافظة المنيا. وفق الخبر الذي نشرته صحيفة الوطن سمحت المطرانية بعرض بعض إصدارات دور نشر تم منع عرضها في نوفمبر الماضي بمعرض الكتاب القبطي الذي تنظمه أسقفية الشباب بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية. الحدث الثاني وقع في الغنايم مركز أسيوط حين أطاح عرض كتب سيد ومحمد قطب الممنوعة في مكتبة قصر ثقافة الغنايم التابع لوزارة الثفافة بمدير القصر ووكيل وزارة الثقافة بالمحافظة. ووفق الخبر الذي تناقله العديد من المواقع الخبرية والبوابات الإلكترونية والصحف باعتباره خبراً مثيراً فقد اكتشفت إحدي حملات التفتيش تواجد بعض الكتب التكفيرية المحرضة علي التطرف علي أرفف مكتبة قصر الثقافة بالمخالفة لقرار وزيرة الثقافة بسحب كتب المؤلفين المتطرفين. بالطبع لا يمكن النظر إلي الحدثين من زاوية إتاحة هنا ومنع أو مصادرة هناك. ولا يمكن النظر إلي الحدث الأول باعتباره خطوة نحو تجديد أو تصويب الخطاب الديني المسيحي، فحتي الآن لا تبدو حقيقة الهدف من وراء إتاحة عرض كتب ممنوعة كنسياً أثارت جدلاً واتهمت بنشر تعاليم مخالفة للإيمان الأرثوذكسي وشكلت بسببها لجان مجمعية لمراجعة إصداراتها ومنعتها الكاتدرائية في نوفمبر الماضي. ولا أدري لو كان سيد قطب مسيحياً بأفكاره المعروفة هل كان الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط سيسمح بعرض كتبه أم لا؟ كما لا يمكن تفسير الحدث الثاني بأنه تضييق تمارسه الدولة علي حرية الفكر، فمن غير المنطقي ان تتبني الدولة فكراً متطرفاً وتساعد علي نشره من علي منصاتها الثقافية. لكن السؤال الذي دار بخلدي: هل يساعد المنع والمصادرة في محاصرة الأفكار الخبيثة؟ وهل إباحة كتب ينظر اليها بتوجس وتقابل بالرفض علي انه إحياء لنقاش فكري ديني وتثقيف لشباب الأقباط ؟ القاعدة المعروفة ان الممنوع مرغوب، وان الحجب يثير الشهية والحماسة للحصول علي هذا الممنوع. ولنا في رواية »أولاد حارتنا« لأديب نوبل نجيب محفوظ دليل علي ذلك إذ تسبب منعها ومصادرتها داخل مصر في إحداث موجة هائلة من التسابق علي الحصول عليها من الخارج وراجت طباعتها في بيروت. حتي في طفولتنا كنا نخفي مجلات ميكي وسمير داخل الكتب الدراسية هروباً من محاصرة الأهل وحثهم لنا علي الاستذكار. الآن في زمن التكنولوجيا أصبح الاطلاع علي أي إصدار ممنوع ورقياً من السهولة بمكان، وصار تحميل هذا المطبوع الممنوع وترويجه يتم بضغطة زر. والسؤال هنا: هل ما يزال الكتاب المطبوع يتمتع بذات الأثر في تشكيل وعي القارئ وتوجيهه فكرياً؟ لا أنكر ان الكتاب المطبوع ما يزال يحتفظ بسحره لدي قطاع كبير من جمهور المثقفين، وبعدها ما تزال شهوة اقتناء الكتب المطبوعة وتزيين المكتبات الخاصة كامنة لدي هذا القطاع. لكن الباحثين عن المعرفة من شتي جوانبها وتوجهاتها لن يحول «المنع» دون حصولهم علي ما يريدون. كنت أتمني أن نستفيد من المكتبات العامة في نشر جدل فكري واسع ومقارعة الحجة بالحجة وان تتواجد علي أرففها الكتب الفكرية التي ترد علي الفكر المتطرف بشكل علمي تصويبي، وأظن ان لعلماء الأزهر دوراً مهماً في هذا الصدد. كما أتمني ان تقام الندوات الفكرية في المكتبات العامة لمناقشة كتابين متضادين يتناولان نفس الموضوع لا سيما في الأقاليم المعروفة بكثافة تواجد أصحاب الفكر المتطرف وان تعقد المسابقات الفكرية والبحثية بين الشباب لتنمية قدرات القراءة النقدية ومهارات تحقيق الكتب لديهم دون الانسياق الأعمي لأفكار هدامة. هكذا تبني العقول ضمن وسائل أخري معروفة.