يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء ، منحدرين في نهاية المساء، لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد. هكذا استخدم أمل دنقل رمز القيصر.. ليعبر عن حاكمه الحالي وعن سخطه منه وفقدان الامل في غد أفضل وذلك في قصيدته (كلمات سبرتكوس الأخيرة) من هذا المنطلق بدأ استخدام الرمز والاغراق فيه بشكل ملحوظ في فترة الخمسينيات حيث الحكم الشمولي وقبضة الدولة الحديدية وسيطرة الفصيل الواحد علي كل مقدرات البلاد والعباد ونظرية الرئيس الإله أو الملهم علي الأقل وازداد الترميز قسوة في فترة السبعينيات وحتي ثورة الخامس والعشرين من يناير لأنه لم يحدث تغيير يذكر في المشهد السياسي. نري ذلك واضحاً عند نجيب محفوظ كأولاد حارتنا وغيرها من أعماله الروائية بوضوح في اعمال يوسف ادريس، كما يطالعنا الأبنودي بقوله «الليل جدار . اذا يدن الديك يطلع نهار« ولا نستغرب الترميز عند عبدالمعطي حجازي وعفيفي مطر وسيد حجاب والمخزنجي وأحمد الشهاوي ومجدي العفيفي باستدعائه لشخصية الحجاج للتعبير عن الحاكم الظالم ورفعت سلام ووليد منير وكل من عاشوا تلك المراحل. فهل كان الترميز نظرية حداثية؟ أم كان خوفا من بطش الحكام؟ في الواقع لم يكن نظرية حداثية تضفي عمقاً وجمالاً للعمل الأدبي فقط بل رأي فيها المبدعون ايضا هروباً من بطش حكامهم بهم وملاحقتهم حيث كانت لا تخرج كلمة للنور إلا بعد ان تمر علي أجهزة أمن الدولة وعلي المؤسسات الرقابية وتعرض العديد من المبدعين للسجن والتنكيل بهم حتي وصل إلي حد اعدام أحدهم وقائمة المبدعين الذين تعرضوا للسجن طويلة لايتسع المقام لذكرها. ولكن هل يلجأ المبدعون إلي الاغراق في الرمزية مرة أخري في زمن الحرية والعدالة ؟ خوفا من بطش الحاكم وسدنته هذا سؤال يطرح نفسه.. الان بإلحاح، ويؤرق العديد من المبدعين ويقض مضاجعهم بعدما استشرفوا بعضا من المستقبل المظلم اعتمادا علي معطيات الواقع، فقد رأوا ظهور طائفة ممن يسمون أنفسهم بالدعاة ويعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة رأوهم يتهمون أصحاب الرأي والمبدعين المعارضين بأنهم اما علمانيون وليبراليون موالون للغرب، وإما أنهم كفرة مستترون يضمرون الشر للمسلمين ولا يريدون للإسلام ان ينتصر.. وبدأ هؤلاء الدعاة يدجنون للحاكم ويصفونه تارة بأنه صلاح الدين الجديد وتارة اخري بأنه أمير المؤمنين وثالثة أنك اذا حزبك أمر فناد وقل «وا .............» وجعلوا الدين بوقاً لتثبيت الحاكم لا رقيبا عليه.. فاذا فعل أمراً ثبتوا ذلك الامر بالدين. واذا عدك عن نفس الأمر ثبتوا رجعته بالدين ايضا.. وعلي صعيد آخر رصد هؤلاء المبدعون مشهداً لا يقل بشاعة عن المشهد الاول وهو محاولة حصار الاعلام بكل أشكاله حتي ان قامة كبيرة بحجم المرشد العام وصف الاعلاميين بأنهم سحرة فرعون، ناهيك عن أن مشروع النهضة الجديد لا يتحدث لا بالتصريح ولا بالتلميح عن دور الابداع في نهضة الأمة ولا عن حاجة الناس إليه وكأن الابداع فضلة وسقط متاعا وكأنهم لا يعرفون ان العقول المظلمة لا تنتج الا خفافيش وأشباحاً ، وخرافات. كل هذه المعطيات وغيرها خلفت صورة مفزعة للمستقبل في ذهن المبدعين وأخافتهم علي أنفسهم وعلي ابداعهم ومستقبل وطنهم حيث سيواجهون بالكفر أو بالعمالة والخيانة ومحاولة تغريب الامة وهدم الدين، وسترفع ضدهم القضايا وسيلاحقون أينما ثقفوا وتصرح المنابر بالدعاء عليهم ولعنهم وطردهم من رحمة الله وأنهم في كل واد يهيمون ولا يتبعهم إلا الغاوون . لذا أتوقع أن يشهد المستقبل انزواء المبدعين وجنوحهم إلي الترميز والاغراق فيه خوفاً من تكفيرهم وملاحقتهم حتي يكونوا بمنأي عن أحكام المحاكم التي لا تعترف إلا بالألفاظ الصريحة التي تعبر عن معانيها الحقيقية والتي لا تعرف في قاموسها أن المتهم كان يقصد كذا. كما ستشهد تهميشاً واضحاًَ للمبدعين ومحاولات لعدم تسليط الضوء عليهم وتراجعاً حقيقياً في حجم توزيع الاصدارات الأدبية وحجم الميزانيات المرصودة لها اضافة إلي أن المبالغة في استخدام الرمز ستضيق دائرة القراء وتنفر البسطاء وتجعلهم لا يتواصلون مع المبدعين ومما يزيد الطين بلة أن السياسيين الجدد لا يؤمنون بالابداع. فهل مستقبل بهذا الرعب لا يفزعنا؟ أرجو أن يخيب ظني.