وعرفنا الحكاية، ولبدنا بين فروع الجميزة. وهي وصلت، ومن غير ما تقول كلمة خلعت لباسها ورمته، ومددت علي كومة القش وشلحت وفتحت رجليها، وصاحبنا شمر الجلابية ونزل لباسه وبرك فوقها..". ثمة تبئير للسرد علي أسرة زغلول وزوجته سكينة والابنين، ويمكننا باعتبارنا ذواتا متلقية أن نلمس حرص الكاتب علي رصد الآثار الفيزيقية والنفسية للجوع عليها. وسوف يستشرف السرد درجته القصوي من المأساوية حين يصبح التخيل بواسطة الاستيهام الوسيلة الوحيدة لتجاوز الجوع وآثاره الحارقة والمتلفة للجسد واستشراف شبع متوهم. ينزوي زغلول قبالة الباب الكبير بعد أن تزود برغيفين كانا منذورين للأولاد وقطعة خيار ناشفة وطفق يرقب العربات التي تحمل المؤن إلي أبناء البيت الكبير القاطنين في المدن الكبري، ويشرع في لعبة التخيل والاستيهام: ".. يبقي دي عربية ابنه. عايز يشد حيله. طيب وانت يا زغلول. عمرك ما أكلت حمام وحيلك مشدود علي الآخر. ومالت وضربته علي كتفه. قال زغلول: - وقفص بط وفراخ. يا قوة الله. المرة دي قفص سمان. وعرفته ازاي؟ - شفته مرة، اصغر من الحمام. وأكلت منه؟ - أبدا. اللي أكلوه بيحكموا. لحمه ناعم وحلو. وبيعمل في الراجل العمايل. مالت قليلا نحوه: بيعمل إيه؟ - وأقول لك ليه. كفاية اللي عندك. والنبي تقول لي. بيقولو الواحد ما يقمش عن الواحدة طول الليل". تثير انتباهنا في هذا المقطع عن هذا التعالق الملتبس بين تحقيق الشبع بواسطة التخيل لجوزهاوالاستيهام والرغبة الجنسية المتوهجة عند زغلول وزوجته سكينة. ونتساءل والحالة هاته إن كان اللياذ بالجنس وسيلة للتعويض عن ويلات الجوع بما هو حاجة وافتقار إلي الغذاء. يجد زغلول وزوجته سكينة بعض الشبع في منزل الحاج هاشم وزوجته، لكن موتهما تباعا عجل بعودة شبح الجوع وصوره الكريهة. تعتبر رواية "جوع" شهادة إبداعية قوية ومؤثرة عن حالة التردي الشامل الذي عرفه المجتمع المصري في ظل نظام الانفتاح وتبعاته الكارثية. ويعتبر الجوع والحالة هاته تمثيلا ذا مستويات دلالية متعددة تنسحب علي الفرد والمكان. وحقيق بنا أن نشدد في هذا الصدد أن أهمية هذا العمل الإبداعي تكمن في سعيه إلي القبض علي الآثار العميقة للجوع بما هو حرمان وخصاصة علي الفرد في ارتباطه بالجماعة والمكان، وباختياره المقصود والدال لأسلوب في الكتابة السردية يعتمد بكثافة العامية المصرية والمباشرة التي لا تخلو من القسوة في التعبير والتصوير. علي كثرة ماكتبه الباحثون والنقاد عن منهجية تداخل الأنواع الأدبية لكننا في الحقيقة مازلنا نعاني في واقعنا العربي من فراغ نظري كبير في هذا الباب المهم وفي كتابه "الشعر والسرد: تأصيل نظري ومداخل تأويلية"الصادر ضمن سلسلة كتابات نقدية التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة. يحاول د. سامي سليمان أن يصوغ مجموعة من الأطروحات النظرية التي يفيد فيها من النقد الثقافي ونظريات التلقي ونظريات الأنواع الأدبية، لاسيما ما يتعلق منها بمسائل التداخل بينها ليطرح عددا من الأفكار الجديدة التي يحاول من خلالها إعادة النظر في مجموعة من التصورات الراسخة في النقد العربي الحديث خاصة ما يتصل بالمواقف من التراث العربي الإبداعي والنقدي. ويتألف الكتاب من مدخل وثلاثة فصول تجمع بين الجوانب النظرية والتطبيقية في وحدة واحدة تجعل من المقولات النظرية وسيلة لبلورة رؤي جديدة لعديد من القضايا النقدية، في ذات الوقت الذي تجعل فيه من المحاورات التطبيقية وسيلة لتجريب المقولات النظرية للكشف عن حاجتها للمراجعة والتطوير. وفي المدخل يحلل المؤلف بشكل مكثف صيغَ العلاقة بين الشعر والسرد في الثقافة العربية القديمة والوسيطة والحديثة ليثبت قِدم العلاقة من ناحية، وليلفت الانتباه من ناحية أخري إلي ضرورة إعادة تأمل أشكال العلاقة بينها طوال مسيرة الثقافة العربية. يشكك المؤلف في حقيقة المقولة المتوارثة والمتواترة عن أن "الشعر ديوان العرب"؛ ويري أن حضور الأشكال النثرية الكثيف في التراث العربي يدعونا إلي البحث عن صيغ العلاقة بين الشعر والسرد في الثقافة العربية الوسيطة مما يمكننا من اكتشاف مقولات وتصورات نظرية تهز التسليم بالمقولة المطروحة. ويطرح المؤلف منهجية جديدة لقراءة النصوص الإبداعية والنقدية تقوم علي التعامل معها علي أنها خطابات تتضمن مجموعة من المستويات المتعددة، مما يجعل قراءتها نوعًا من التأويل الذي يستهدف الوصول إلي المستويات العميقة للخطابات عن طريق القراءة التزامنية والتعاقبية التي تقوم بنوع من الجدل بين مكونات الخطاب في ذات اللحظة التي تحلل فيها تفاعلات الخطاب النقدي مع الخطابات الثقافية السابقة عليه والمعاصرة له. ويحدد المؤلف مجموعة من الشروط الثقافية لتحقيق قراءة نقدية قادرة علي التجاوز والإضافة، ومنها: إدراك تاريخية المقروء وتجاوزه للتاريخية في الآن نفسه، وحرية الممارسة النقدية التي يبلورها المؤلف في مقولته التي تري أن "النقد خطاب العقل الحر". وفي الفصل الأول يقدم المؤلف قراءة لمصطلح "الاقتصاص" في النقد العربي الوسيط ويربط بينه وبين موقف النقاد المحدثين من ظاهرة الشعر القصصي. وإذا كان هذا المصطلح يشير إلي بناء الشاعر قصيدته علي قصة أو حكاية أو خبر فإن المؤلف يؤوله علي أنه كاشف عن صيغة من صيغ التداخل بين الشعر والأشكال السردية مما يتيح للناقد المعاصر التماس صور العلاقة بين الشعر والسرد في الثقافة العربية الوسيطة. ويكشف المؤلف عن مفارقة غياب المصطلح عن النقد العربي الحديث في ذات الوقت الذي صاغ النقاد المحدثون صيغا من الوعي بتفاعل الشعر والسرد نتيجة اتصالهم بنظريات النوع في الثقافة الغربية. وفي الفصل الثاني يقدم المؤلف قراءة تأويلية لتلخيص ابن رشد كتاب "الشعر" لأرسطو، فيكشف عن أن ابن رشد قد فهم من نظرية أرسطو أن القصيدة الشعرية تقوم علي قصة أو حكاية أو خبر أو حديث،مما يعني فيما يري المؤلف أن هذا الفهم كان يقدم تصورًا ما لتداخل الشعر والأشكال السردية مما جعل المؤلف يقوم بإعادة صياغة جزئيات أفكار ابن رشد ليستنتج صورة تأويلية لتفاعل الشعر والسرد لاسيما أن ابن رشد استطاع،فيما يؤكد المؤلف، أن ينفرد في التراث العربي بصياغة مصطلحي "القصص الشعري" و"الأشعار القصصية" مقابلين دلالين لمصطلح "الملحمة" عند أرسطو. مما يكشف عن وعي عميق لابن رشد بظاهرة التداخل بين الشعر والأشكال السردية، وذلك ما لم يلتفت إليه النقاد المحدثون. وفي الفصل الأخير يقدم المؤلف دراسة تطبيقية لأدوار السرد في قصيدة "جدارية" لمحمود درويش حيث يحلل أدوار الراوي وتحولاته في مقاطع القصيدة كاشفا عن العلاقة بين تلك التحولات ومجازات القصيدة ولغتها، كما يتوقف عند تأثيرات السرد علي البنية الزمنية في القصيدة.ويصل من خلال ذلك إلي أن هذه القصيدة عُنيت بسؤال الهوية مما جعل جدل الهوية والصيرورة أساسيا فيها، مما يجعلنا نستطيع تأويلها علي أنها سيرة ذاتية شعرية تبتغي إكمال ما لم تستطع الذات الشاعرة تحقيقه في الواقع المعيش.