جنازة عبد الحليم حافظ اقتحم رجال أمن الرئاسة مستشفي الشرطة، صادروا جثمان نجيب محفوظ. أصبح الجثمان تحت " الرعاية" الكاملة لخبراء المفرقعات في رئاسة الجمهورية، منذ تلك اللحظة اصبحوا مسئولين عن كافة تفاصيل الجنازة، من غسل وتكفين، بل مسئولين أيضا عن تفتيش أفراد العائلة والأصدقاء تفتيشا دقيقا، حرصا علي سلامة الرئيس الذي سيشارك في تشييع أديب مصر. وبعد كل هذه الإجراءات كان لابد من تمرير الجثمان في أجهزة كشف المفرقعات، وحراسة الجثمان بعد ذلك ومنع أي احد من الاقتراب منه حتي موعد الجنازة. لم يتحقق حلم محفوظ بأن تخرج جنازته الشعبية من " سيدنا الحسين" كما قال لأصحابه، حيث كان النعش الذي حمل إلي مسجد الحسين فارغا، حيث نقل الجثمان مباشرة إلي مسجد آل رشدان حيث الرئيس والجنرالات في الانتظار ...لم يتحمل الرئيس السير في الجنازة سوي دقائق ، لم تتجاوز ثلاث دقائق، فقط من أجل التصوير أمام الكاميرات، انسحب مع مرافقيه، وحراسه تاركين الجثمان. كان الأمر مستفزا ، بدلا من أن تفكر السلطة ولو للحظة في أن ترسل رسالة بأن التفاف الناس حول محفوظ يمكن ان يكون رسالة ضد التطرف والعنف، رسالة تعني احتفاء بمدنية الدولة الهاربة من تأميم الشيوخ للمجتمع. لكن السلطة لم تسمح بذلك خوفا من الجمهور الذي حرم طوال عصر مبارك أن يعبر عن فرحه أو حزنه، فقط عندما يكون الأمر متعلقا بفرحة انتصار في مباراة تحت رعاية السلطة نفسها. جنازة محفوظ كانت نموذجا للجنازات الرسمية الباردة التي رعتها دولة مبارك، حدث الأمر ذاته مع سعاد حسني النجمة المتفجرة بالحياة، التي صعدت من أسفل السلم الإجتماعي لتصبح النجمة الأولي ، قتلوها ، وحرموا محبيها من السير في جنازتها. محفوظ نفسه وصف جنازة سعد زغلول بأنها "الأكبر والأعظم " بل تفوق جنازة عبد الناصر. رفعت فيها الجماهير النعش علي اكتافها من ميدان الأوبرا وحتي مدافن الإمام. وكان الحزن شاملا كل الفئات والطبقات والأحزاب ..فسعد هو " الأب الروحي للأمة كلها". وهو الأمر ذاته الذي حدث مع النحاس باشا عام 1965، الذي فرض عليه حصارا شديدا، ومنع من الظهور أو الإشارة إلي أي اخباره في كافة وسائل الإعلام، ويوم وفاته حذرت السلطة الناصرية الجمهور من " التجمع" وقامت بتهديد المشيعين بحجة ان الشعب مولع بالجنازات..فقد خرج الملايين لتشييع زعيم الوفد واعتبرت الجنازة يومها رد اعتبار شعبيا للوفد وزعيمه. لم تكن جنازة عبد المنعم رياض جنازة تقليدية عادية، نحن أمام قائد عسكري استشهد برصاص العدو ، وكان في الصفوف الأولي يتفقد قواته. طغي علي المصريين كما يقول الكاتب محمود عوض- وقتها شعور بأن استشهاد رياض هذا أعاد الاعتبار إلي العسكريين جميعا، هذا النوع الجديد من العسكريين الذين يقع علي أكتافهم إعادة الاعتبار للعسكرية المصرية وإعادة بناء القوات المسلحة. فضلا عن شعور آخر بالغضب الإيجابي :" كان عبد المنعم رياض شعاعا مضيئا في الظلام، هذا عسكري محترف، ومتبحر في العلم العسكري، يتابع القتال من الخندق الأمامي وهو يعرف مسبقا أنه في بؤرة الخطر، أقصي درجات الخطر.مثل هذا السلوك لا يفعله إلا شخص مؤمن بجنوده وضباطه، مؤمن بجيشه، ببلده". لم تكن الجنازة تقليدية ، خرجت جموع المصريين بعفوية للمشاركة، حتي أن عبد الناصر ذاب بين الناس، الذين اقبلوا عليه يعزونه ويخبرونه "معك ثلاثين مليون عبد المنعم رياض ياريس .. " ، وسط هذه الجموع اختفي طاقم الحراسة تماما ، ليحيط هؤلاء الناس بالرئيس وتتشابك ايديهم لتصبح طاقم حراسة للرئيس الذي قال يومها لمعزيه: ذهبت إلي الجنازة لمشاركة الناس وليس لتقبل العزاء في رياض، العزاء الوحيد عندي، وعند عبد المنعم رياض، وعند كل العسكريين المصريين، هو تحرير الأرض". الأمر ذاته حدث مع عبد الناصر نفسه الذي سار في جنازته أربعة ملايين مصري في القاهرة وحدها وأقيمت له جنازات شعبية في كل المحافظات ، بل في عدد من الدول العربية. وكذا الأمر في جنازات عبد الحليم حافظ، وام كلثوم وطه حسين ، وهي الجنازات التي سار فيها الملايين، خرج الناس لوداعهم احتفالا بقدرة الإنسان علي الخلق والإبداع ... أما محمد عبد الوهاب فقد كان حظه أنه مات في عهد مبارك الذي كان يخشي شعبه. الوحيد الذي نجا من مصير الجنازات الباردة كان البابا شنودة الذي رحل بعد رحيل مبارك ، فخرج الشعب مسلمين ومسيحيين ليلقوا نظرة وداع علي جثمانه دون أي قيود أمنية، ودون وجود رئيس أو مسئول كبير يقصي الناس من المشهد ليظهر هو، فقد غاب مبارك عن المشهد السياسي وكان وجوده كفيلاً بتحويل جنازة أي رمز شعبي إلي أمر رتيب، تخنقه القيود الأمنية. كانت جنازة البابا إعلانا عن استمرار روح التسامح التي تبدو في كثير من الأحيان غائبة.. عندما يرحل مبارك ( اصبح شائعة كل يوم) يستحق " جنازة" تليق بعصره، لن تكون جنازة شعبية مثل سعد زغلول أو عبد المنعم رياض أو عبد الناصر أو طه حسين، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ. هؤلاء خرجت الجماهير تبكيهم ، وتودعهم، كانوا جزءا من الشعب بعضهم مات علي الجبهة لم يجبن، عبروا عن الشعب، وتماهوا مع أحلامه، لم يخشوا الجماهير ولم تخشهم الجماهير. اما جنازات عصر مبارك فلم تكن سوي جنازات معلبة. والجنازة العسكرية شرف كبير، ولكن مبارك لا يستحق هذا الشرف.