لم أكن أحسب أبداً أن النمل سيتخذ من أنفي جحراً له ! يروح ويغدو ويتوغل في عميق اللحم المعبد أمام أرجله الدقيقة. يجر أشياء بيضاء صغيرة ويهم في اتجاه أنفي. أنا الذي هدني التعب وقلت أغمض عيني لعلي أستريح قمت فزعاً أضرب بيد هنا وهناك والنمل يتساقط ويجري بحثاً عن مخبأ جديد. كنت بالأمس أحمل عليه أطارده في جنبات الشقة. في يدي صفيحة الكيروسين. أصب علي الشقوق المتناثرة بين مربعات البلاط. أجلس لأراقب أسرابه الأتية وفي أفواهها فتات الطعام. تشم رائحة الكيروسين فتتفرق هاربة. ألاحقها وأسكب عليها مرة أخري. تتململ وتترنح ثم لا تلبث أن تخمد بلا حراك. أقول لنفسي: انتهت معركة النمل.. تمر ساعات قليلة وألمح خطوطاً أخري من هذه الحشرة المثابرة. أجري إلي الحمام وأغمس خرقة بالية في الماء. أعود فأمررها فوق الخطوط البنية فتلملم النمل في طياتها. أرجع إلي الحوض وأعصر الخرقة عصراً شديداً .. شديداً. ألقيها في بطن الحوض وأفتح عليها الصنبور. يدور قتلي النمل في ثبج المياه المتلاطم برفق ثم ينزلق إلي المواسير. أقول لنفسي مرة أخري: ذهب النمل بلا رجعة.. أمسح أرضية الشقة بالماء والكيروسين، لكن النمل يعود بعد ساعات يزركش الأبواب والنوافذ. يصعد ويهبط باحثاً عن فتات الخبز وحبات السكر والسمسم. أجري لأبلل الخرقة. أحياناً أشعل ورق الجرائد وأمرره سريعاً علي الخطوط المتحركة فوق الحوائط فتهوي صريعة وتحترق مع الكلمات المحترقة. نصحني صديقي أن أضع عظمة كبيرة في صالة الشقة، وقال: - حين يراها النمل سيتهافت عليها. - وبعد هذا ؟ - تأخذها بآلاف النمل الذي تجمع فوقها إلي الحمام. هاهي عظام اشتريتها من محل جزارة قريب من بيتي. وقال لي الجزار: اشرب شربتها وضع نخاعها في أرغفة وأملأ بطنك. ابتسمت وقلت له: بل هي للنمل. ودعتني نظرته المتسائلة، لأجد نفسي أرص العظام بجوار الجدار، وأجلس بعيداً. هاهي نملة تسير في اتجاه عظمة. تتسلق حراشيفها، وتتوغل في عمقها المشدوخ. تختفي بين ثنايا اللحم الناشب في جنباتها. دقائق وتظهر. تسير في اتجاه معاكس. تتدحرج إلي الأرض مرة أخري وتجري نحو الشقوق. بعد دقائق تعود, ووراءها جيش النمل. أنتظر حتي يقع هذا الجيش الجرار في مصيدة العظام ثم أخطفها وأجري إلي الحمام وأنا أردد : هُزم النمل .. هُزم النمل. ربما فطن النمل إلي حيلتي فهجر عظامي المطروحة علي الأرض تنتظر فرائسها، وراح يسعي علي الحائط متجهاً إلي المطبخ، ليدبر قوته من طعامي الرخيص. اشتريت سماً أبيض. نثرته علي الجدران وفي الدهاليز المؤدية للشقوق وفوق الحوائط وبين فواصل النوافذ والأبواب. أحكمت كل منافذ الضوء والهواء وتركت شقتي المختنقة برائحة السم ثلاثة أيام. عدت في مساء اليوم الرابع ومعي طعام العشاء. فتحت الباب. ضغطت علي زر الكهرباء فهربت العتمة الحبيسة. أشرقت اللمبات علي جدر بيضاء تمشي في تمهل. جثوت لأتفرس ملامح هذا الزحف البطيْ فإذا بالنمل الملفوف في بياض السم يجر قلامة ظفر من خبز نحو مخابئه. دلفت إلي المطبخ لأضع ما معي من طعام ففزعت لهذا المشهد: كل الأطباق مليئة بالكائنات البنية البيضاء. أكواب الشاي والملاعق. الأرغفة الجافة, كيس السكر. بقايا الفاكهة... أجري كالمخبول إلي الحمام. أفتح الصنبور وأسد الفتحات المؤدية إلي مواسير الصرف الصحي. تتجمع المياه وتجري نحو الغرف فتغمر الأشياء أمامها . أوراقي تسبح في لجاجها كمراكب الصيد الصغيرة, السجادة الوحيدة التي أقتنيها بدت في منتصف الحجرة كجزيرة كبيرة في نهر ينساب علي مهل. فتحت الباب الخارجي، وأغلقت الصنبور، فاندفع الماء المسموم بالنمل علي السلالم. درجة .. درجة، حتي اختلط الماء بتراب الشارع. أنا بالماسحة أطرد المياه الحبيسة، وأدهس النمل الغريق. أمسح فأترك ورائي بلاطاً نظيفاً. يومان ورأيته يطل من بين شقوق البلاط. يخرج أسراباً متلاحقة لا تبالي بشيء، وتمارس طقوسها المعتادة في وضح النهار. كنت كلما ذهبت إلي أصدقائي تفرست معالم منازلهم بحثاً عن النمل. حين أدخل حماماتهم أطيل النظر في جدرانها لعلني ألمح الأسراب البنية، تسعي نحو صرصور فارق الحياة، أو عنكبوت فقد القدرة علي نصب فخاخه الواهية. في أحد هذه الحمامات عييت أن أجد نملة واحدة. أرضيته كانت من القيشاني المصفوف في إتقان. المصقول الأملس الناعم الذي يملأ العين بروعته. كذلك كانت الحوائط. قلت لنفسي: لن يأتي النمل أبداً إلي هذا المكان النظيف. لابد أن بلاط شقتي المتشقق كأرجل الفلاحين هو الذي أغري هذه الحشرة لتتخذ من شقتي وطناً لها. منذ ذلك اليوم رحت أدخر كي أدبر ثمن القيشاني، وعزمت علي أن أجعل كل أرضية الشقة من هذا البلاط الجميل. بعد عامين وفرت ما يكفي لتجهيز الصالة فقط. قلت أبدأ بها فلعله يتخندق أسفل بلاطها القديم. ليلة التجهيز طفت بكل دهاليز الصالة. كلما وجدت نملة تجاهد بحثاً عن قوتها سخرت منها وقلت لها: غداً سترحلين إلي الأبد. هزأت من عشر نملات كن يجذبن أنف خنفسة نحو حذائي الأجرب. في البكور كانت الأزاميل تصارع البلاط الرخيص. انكشف الرمل المفروش عن مسارب محفورة ممتدة, مملوءة بشرانق النمل المتخندق وراء أقواته. قلت للعمال: ارفعوا هذا الرمل، وافرشوا رملاً جديداً. وبدأ الرفع، فراح النمل يفر، لكن باغتته الأيدي اللاهثة، وجرفته إلي عميق الأجولة. عندما خلت أرضية الصالة من الرمال جثوت لأبحث عن أخر كائن بني يدب علي الأرض. عند مداخل الغرف كان البلاط القديم الرخيص لا يزال جاثماً. هاهي أخر نملة تهرب. اتجهت نحو الباب الخارجي للشقة. فجأة اندست تحت بلاط، واختفت في العميق الأسود. انسكب الرمل الجديد وأخذ العامل يسويه، ثم رمي الأسمنت، وراحت مربعات القيشاني تتلاحق. أغلقت الباب وراء آخر عامل غادر شقتي واستدرت لأنعم النظر في جمال الأرضية الأملس المتناسق. بهرتني نظافتها وانسيابها فخطفت بطانية من حجرة نومي. تمددت علي الأرض وأنا أتنفس بارتياح شديد. في الصباح ذهبت إلي الحمام وسخرت من نملة كانت تصارع المياه المتدفقة إلي الحوض. قلت في نفسي: قريباً سيزحف القيشاني إلي هنا ولن يجد هذا النمل اللعين مكانا. لمَّا جن الليل تمددت في صالة الشقة بعد أن تجردت من أغلب ملابسي اتقاء للحر الشديد. أخذني النوم إلي قيعانه المليئة بالأحلام والحكايا. حلمت أنني أمتطي جواداً أبيض. أمسك بيدي سيفاً طويلاً لامعاً. أنادي في الجموح المزدحمة حول عربات الخضار والفاكهة في السوق: سأحارب النمل .. سأحارب النمل .. كان النمل يجري في الشوارع وعلي الجدران الحوائط. أخذت أدوسه بأرجل حصاني فيفر إلي الحارات الضيقة. وقلت في زهو: -هزمت النمل. ترجلت وسرت شاهراً سيفي، وحصاني يتبعني، حتي بلغت نهاية السوق. تلفت هناك فإذا بالنمل يتجمع في نوافذ البيوت ويهطل علي رأسي كالسيل العرم. غطي جسدي وجسد الحصان وأطفأ بأجسامه الدقيقة لمعان سيفي. رحت أجري .. أجري, ما وسعني وأنا أصرخ: النمل ..النمل .. النمل .. لم يسعفني أحد وتعبت من الفرار فسقطت علي الأرض. قفزت مذعوراً. فتحت عيني فإذا بالعتمة الرائقة تفرش جنبات الصالة. وإذا بأشياء صغيرة تتلمس طريقها نحو أنفي سابحة علي لحم وجهي, جريت نحو زر الكهرباء وضغط عليه. فرت الظلمة وحل النور الغامر. مددت يدي إلي وجهي. وأدخلت أحد أصابعي في أنفي فإذا بالنمل يتساقط فوق أرضية الصالة القيشاني يجري لينضم إلي سرب كبير يتحلق حول البطانية. يدب هنا وهناك ثم يعود علي مهل، ليختفي تحت بلاط الغرف القديم.