1 في الفترة الأخيرة، اعتاد النزول وكأنه يهرب من لحظة ما هو يعلمها جيدا، ففور عزاء العم خيري شلبي حكاء القرية، انصب حديثنا حول إبراهيم أصلان، ماذا سيفعل دون خيري؟ فكان صديقه الذي يهرب فيه. بدأ كل منّا يثبت وهن العجوز أصلان وراح الحزن كقطار بطيء نحوه. يقول أحدنا: "رأيت عينه تدمع بغزازة" برغم أننا نؤمن بأن وجع القلب والذكري أقوي من دمعة تنهمر لحظة الوداع. فيرد الآخر:" رأيت ارتعاشة جسده زادت وظهر الوهن علي جسده" "لقد رأيته شاردا". كنا جميعا نعلم أننا نبحث عن أي مدخل للحديث عن خيري وأصلان في نفس اللحظة. وختمنا عزاء عم خيري ب "ربنا يديك الصحة يا عم ابراهيم" فأنت الأستاذ الأخير. لكن في نزوله في الفترة الأخيرة بغزارة، كان كمن يحاول أن يقنع نفسه بشيء هو يري عكسه، مثل الشيخ حسني الذي ظل يحاول طوال المالك الحزين ( الكيت كات) ألا يقتنع بأنه أعمي، فصنع كل التفاصيل الحياتية التي يقوم بها إنسان عادي. لو قمت بحذف كلمة كفيف فتقول: عادي ما أي واحد بيعمل كده، ولكن لو أخبرت السامع بعد نهاية القصة لجحظت عيناه من الدهشة، ليقول: سبحان الله، كفيف؟ وبيعمل كل ده ؟ ما أصعب أن تري العالم وحدك. 2 كان أصلان في جلساته الأخيرة مدهشاً في إيقاع الحكي، يصمت للحظات طويلة ثم يحكي نميمة تضحكنا لثاني يوم. لم يحك في الفترة الأخيرة حكاية مؤلمة حتي وإن كان يحكي عن خيري شلبي الصديق القديم. كان يختار حكاياته بعناية شديدة كما لو أنه يكتبها، فتقول في سرك: والله دي قصة قصيرة. لذلك أسموه الجواهرجي. 3 عندما علمت برحيل أصلان من شادي ابنه، صاح وهو في حالة انهيار وقال: إبراهيم أصلان مات يا باسم، وظل يبكي. لم أستطع الرد .. صدمة عظيمة .. ذهبت الي الأستاذ محمد هاشم وذهبنا للمنزل الجديد بالمقطم.. شقة لم تترك ذكري في حكاية طريفة يحكيها لنا عم أصلان، لأنها استقبلتهم قبل أسبوعين من موته، غير مقاله الأخير ( العزال ) حيث حكي معاناة العزال ونقل الكتب. لم تتعرف جدران هذه الغرفة بتفاصليها علي تجاعيد العجوز الحزين. يا لحظ شقة "حجرتان والصالة" لقد كرمها أصلان أفضل تكريم. دخلت بيت أصلان الجديد فلم أستطع أن أدخل غرفته وأراه ممدداً أمام عيني، لا حراك به ولا ترحيب بنا كما عودنا. لم أستطع أن أراه مغمض العينين مجبرا. يا لقسوة الموت. وعندما علمت بالجنازة، أيضا لم أستطع أن أراه ممدداً في صندوق مودعاً كل تفصيلة رآها، مودعا الأصدقاء والأحباب .. كما أني خائب في فن الوداعات .. 4 كل مرة يقول لي .. إنت ما بتجيش تزورني في البيت ليه يا باسم ؟.. أرد عليه بحرج: حاضر لازم هعدي عليك يا عم إبراهيم هاكلم شادي وأجيلك .. .. والمرة الوحيدة التي قررت فيها زيارة عم ابراهيم هو يوم لم يقف لاستقبالي فيه .. هو اليوم الحزين في الشقة الجديدة .. 5 اليوم ترحل غرابة المألوف وتجاعيد العجوز الحزين والشارب المميز .. يرحل إبراهيم أصلان. يا لقسوة الموت .