يتشكل بروفايل أي كاتب أدبي مما كتبه فناً ونقداً، ونشاطاته المتعلقة بالكتابة والتي يصعب فصلها عن مجمل سيرته، قد تكبر منطقة علي حساب أو لحساب أخري. من جهة الإبداع والنقد، أذاع كثيرون آراء نقدية متفاوتة القيمة كتولستوي، وتي إس إليوت، وكونديرا، وفي مصر جمع كثيرون بين الإبداع والنقد، وهناك من شغلهم إبداعهم عن النقد، وتجد يحيي حقي أكثر من يقنعك ناقداً وهو مبدع، وإدوار الخراط أكثر من يقنعك مبدعاً وهو ناقد. وتوزعت جهود سيد الوكيل بين النشاط الكبير في المجتمع الأدبي والنقد والإبداع، وكتابه الأخير "الحالة دايت،.. سيرة الموت والكتابة"، يقدم طرفاً من هذا وذاك. ماذا يجذبني في هذا العنوان؟ الموت حكم إعدام مجهول الموعد والكيفية، أنتيم المرض والألم، إنه مثير للقلق، مثير للكتابة، لكل منا اتفاق معه وإلا استحالت الحياة، وبيني وبينه تسوية، عقد بين ذئب وحمَل، عقد إذعان. في قصيدة (بانت سعاد) المشار إليها بالكتاب، يقول كعب بن زهير: كل ابن أنثي وإن طالت سلامته .... يوماً علي آلة حدباء محمول والكتابة أهم ملامح شخصية المؤلف الذي جمع في هذا الكتاب بينها هي والموت. وكل قراءة فرصة لتغيير أو إضافة للنفس، عنوان كهذا يهيئني لمراجعة عقد الإذعان، هذا يتوقف علي ما يقدمه الكتاب، تراكم القراءات يصعِّب الأمر، إلا أن الوقت للأسف ولحسن الحظ يكفي منفرداً لزعزعة كل استقرار. هذا أمل أخشي وأنتظر تحققه؛ فحينئذ لابد من جراحة عاجلة، رواية مثلاً. ضربة البداية: العنوان ضربة البداية (الخارجية)، لن أتوقف عنده تجنباً للإطالة، فقط أخلص إلي أنه لا غني لك عن القراءة لمقاربته جيداً، يعني ذلك أنه جزء من النص، هذا صحيح بالنسبة للإهداء، وإن كان (الكتاب يبان من عنوانه) فالكتاب (يبان من إهدائه). الإهداء ضربة بداية (داخلية). هناك إهداء يشعرك بالمغايرة، وآخر يشعرك ألا جديد هناك. إهداء (الحالة دايت) موجه لثلاثة أشخاص، يصفهم بشفافية الروح وطيبة القلب والصوت الحالم، ربما آخرهم (أحمد الوكيل) أخو الكاتب، هذا إهداء اجتماعي، عاطفي، يشي بكاتب يقدِّر تلك الصفات. هناك رسالة للقراء وأخري للمهدي إليهم، يضعنا الإهداء بين التودد والروحانية، إنه مناسب لموضوعات الكتاب، يذكرك بإهداء رواية الكاتب (فوق الحياة قليلاً): "إلي أصدقائي الذين مسّتهم الحياة بحرّها، الذين...،... أحبكم والله". فخ الحنان: يصنع كل نص علاقة بقارئه، من علامات ثراء أي كاتب تنوع علاقات نصوصه مع القارئ، مثلاً أيها القارئ الرشيد، الخيِّر، الشرير، الغريب، المحتار،.. وهكذا. ونحن بمصر في حقبة سرمدية يغلب علي كُتّابها القول: أيها القارئ الحبيب طيب القلب مثلي، أريد حباً وحناناً، ومثل ذلك من أساليب الاستدرار العاطفي، المقترنة غالباً بالموقع الفوقي للكاتب، يعني: (إديني حسنة وأنا سيدك). كسابق أعمال الكاتب يقع (الحالة دايت) في فخ الحنان، تجد علاقة وحيدة بالقارئ هي الاستمالة واكتساب التعاطف، نتيجة لذلك أو بسببه هناك عالم محدود، تكرار لتيمات وشخوص قليلين، قد يُقال إن هناك رؤية خاصة. لا أري ذلك. ولا يغني عن البيان أن الاستسلام لفخ الحنان ليس حكم قيمة، وعلاقة التواطؤ العاطفي هي الأحب للقراء، ربما بالاعتياد، أو لأسباب نفسية، وقد تنتج بها فناً مميزاً، أو لا تفعل، مثلاً كل أعمال بهاء طاهر مقيمة بفخ الحنان إلا أن بواكيرها لا تقارن بأواخرها. هامش كاشف: يتذيل الكتاب هامش يقول: "الأسماء الواردة حقيقية؛ لكنها تتجاوز الحقيقة بقوة الخيال". وفي عمل إبداعي، ليس هناك ما يدعو لهامش كهذا؛ لكن الكتاب ثلاثة أقسام، ويقتصر فعل المخيلة (الإبداع) علي النصوص الأربعة الأولي بالقسم الأول، حيث الأسماء مجاز دون حاجة لهامش إرشادي، يختفي الإبداع سريعاً فيصير الكتاب نقداً وسيرة لهما دلالة بشأن النشاط في المجتمع الأدبي، ربما اعتري الكاتب قلق ما، فألقي بذلك الهامش مثل الكليشيه الشهير: (جميع الأسماء الواردة من صنع الخيال وأي تشابه مع الواقع هو محض مصادفة)، ذلك التحذير يعني أن عكسه صحيح، وما وضع إلا ليدفعنا الكاتب بيده في اتجاه غير ما يدفع إليه العمل نفسه. بين المعرفي والفني: تجنب الأقوال التي فتك بها الابتذال أولي من ترديدها دون تمحيص، ويردد الكتاب الكثير من المقولات التي ابتذلها التكرار، مثل: الحياة فيها أكثر مما نكتب، (واللي يعيش ياما يشوف)، والرأي في علاقة المصريين القدماء بالموت، ووصف النت بالفضاء الافتراضي، ولا تدري مثلاً كيف نردد القول بالفضاء الافتراضي وقد نأتي من الخيال أو (ذلك الافتراضي) باختراع أو ثورة، أو قد تعدِّل في عملك المنشور بالنت أخذاً بتعليقات أصدقائك (الافتراضيين)، لا يمكن اعتبار اختراع المصباح الكهربي مجرد خيال، وقد تم تنفيذه. ويردد الكتاب القول بسقوط الأيديولوجيات الكبري، هذه المقولة ابتذلت والجميع يعطر بها فمه. هناك قضايا كبري لم تسقط بعد، أهمها الموت، تجده في عناوين حديثة ورد بعضها في (الحالة دايت)، وتلاحظ (من الكتاب) علاقة الكاتب بأصحابها جميعاً، هذا أحد قوانين الاجتماع الأدبي بمصر، وغير ما أورده الكتاب هناك مثلاً روايات (هاجس موت) لعادل عصمت، و(الوفاة الثانية لرجل الساعات) لنورا أمين، و(سقوط النوار) لمحمد إبراهيم طه، و(خط ثابت طويل) لمحمد طلبة الغريب، وهناك أعمال أخري عديدة. أطاحت الآراء المباشرة بأدبية (الحالة دايت)، والأدبية تتجاوز اختلاف الآراء وثقافة الكاتب، قد يكتب رجل متواضع الثقافة قصة ذات مغزي يتوقف أمامه كبار الفلاسفة، ولا يمكن للكاتب نفسه طرح موضوع قصته مباشرة بعمق مماثل، هذا فارق بين ما هو فن وما ليس بفن، هذا يدفعك لعدم التحدث عن أعمالك الأدبية، ويذكرنا بقول النفري: إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، ففي الفن تجاوز لضيق المباشَرة عن متطلبات الرؤية حين تكون عميقة. كثرت كتب التراث التي تأخذ من كل شيء بطرف؛ فتجمع بين الحكاية التاريخية، والنادرة، والفائدة الاعتراضية، كالأغاني، والعقد الفريد، والمستطرف، وربما يراد مثل ذلك في (الحالة دايت) بمكونات النقد والسيرة الذاتية والإبداع، ربما طمح الكاتب إلي نص يريده ما بعد حداثي، ركوناً للزعم بأن ما بعد الحداثة تتجاوز الأنواع، تنتهك الحدود التي تخفي وراءها هيمنة أو سلطة ما، لكن الطموح الفني شيء آخر، وضع هذا إلي جوار ذاك لا يكفي، ليست كعكة أن تضع السكر جوار الدقيق والبيض والسمن، دون طهي بطريقتك الخاصة. ولا يستوقفنا بصفحة 18 مثلاً قلق سردي غير مبرر، بانتقال السرد من صيغة المضارع للماضي، ولكن يستوقفنا أن النصوص الأربعة الأولي أدني للفن من سائر الكتاب، هناك قصة تتناول فكرة مقبرة العائلة، كادت أن تكون عملاً جيداً، لولا انسياق الكاتب خلف إغواء الفكرة المبتذلة بشأن عته الشيخوخة، ومفارقات تآكل القدرة علي استيعاب وتخزين المعلومات الحديثة، فيما الأحداث القديمة المختزنة بالفعل أكثر حضوراً في النفس. وما جاء بالكتاب عن الكتابة منحاز للمباشر والمبتذل كما بشأن الموت، ولا ينتظر من كتاب كهذا أن يكون بحثاً بمختلف الثقافات والروايات عن الموت أو غيره، إنما ينتظر منه خصوصية ما، لكن أفسد الأمر التراوح (الصراع؟) بين الإبداع والكتابة المباشرة (نقداً وسيرة) ميلاً للأخيرة علي حساب الأول، هناك انشغال ببث رسائل غير فنية، هناك خبرة بالكتابة لا تجربة ذات خصوصية اللهم إلا في لمحة الجزء الأول، والكتاب غير الموفق فنياً فيما رأينا، ناجح في رسم بورتريه للمؤلف، إبداعاً وكتابات أخري، ونشاطاً بمجتمع الكتابة.