في كتابه البديع هذا الشعر الذي نشره أديبنا الكبير يحيي حقي في حياته, ثم أعادت نشره مع كتبه الأخري في طبعة جديدة عام2008 دار نهضة مصر, يحدثنا عن شاعر الهند العظيم ميرزا أسد الله خان غالب(1797 1869) من خلال ديوانه الذي نظمه بالأردية, وأتيح ليحيي حقي أن يقرأ كثيرا من قصائده بالإنجليزية مترجمة عن الأردية والفارسية, فإذا بها كما يقول بلغته الجميلة وحسه الفني الرائع: كأنها قنابل زمنية تنفجر بين يدي, لم أهتز لشعر مثل اهتزازي لهذه القصائد التي تتفجر بشحنات هائلة من الفكر والعاطفة, من الجد والفكاهة, من إعلاء قدرالإنسان. ويدرك يحيي حقي فيما يدركه من أسرار الإبداع الشعري التي تفرد بالكشف عن أسرارها أن الشاعر العظيم هو الذي يعدي القاريء, ويصب في قلبه إشراق لحظة الإبداع, وما تحمله من فرح وألم علي حد سواء, وأن الشاعر العظيم هو الذي يحملنا علي الانتباه وإعادة الانتباه, وأن غالب في هذا الديوان المنظوم بالأردية, شاعر يرضع من ثدي الإسلام, إذ تتناثر في الديوان كلمات مثل: الوحدانية, وزمزم, والحج, وأسماء عدد من الأنبياء الذين يمتليء القرآن الكريم بذكرهم مثل موسي وإبراهيم, وإذ زاد تدقيقه انتبه في شيء من العجب إلي أنه خلو من اسم الرسول, وفي الديوان ظلال هذا التصوف الذي وفد علي الإسلام من الهند ومن هذين العرقين: التركي والفارسي متميزا بخصائصه. ويدهشنا يحيي حقي وهو يغوص أكثر في طبقات هذا الديوان, وأعماق هذا الشاعر. فيري أن الديوان لايحوي إشارة واحدة تدل علي عصر الشاعر أو مجتمعه, أو تحوي بالذكر أو الوصف مكانا بعينه, كل ما يتعلق بالمعيشة الأرضية محذوف منه, وبدلا من هذا كله يطالعنا الإنسان بمعناه المجرد المطلق علي أتم صورة. هو طيف محوم فوق قبيلة الشعراء المنغرزة أقدامهم في الأرض, هو منهم ولكن لايلحقونه, إنه طراز فريد بين الرجال, هيهات أن يكون له مثيل سابق أو لاحق, له سحر طاغ, اتقاد كالنار, ورحابة كالبحر, وتفجر كالقنبلة, وطبع هذا المارد الجبار هو في الوقت ذاته طبع رجل ظريف خفيف الدم يميل إلي الدعابة لا إلي السخرية, إن كان له لوم أو عتاب فلنفسه فحسب, رفيق كقلب طفل, صريح يمقت الكذب والنفاق وفضح المستور, إن كان له سر يفيشه فهو سره وحده, كريم ودود مضياف. واضح أن يحيي حقي وقع في هوي الرجل وشعره, وتوهج وجدانه بكلمات أسد الله غالب, التي قرأها في غير لغتها الأصلية, فكيف كان حاله سيكون لو كان يستطيع قراءتها والاقتراب الشديد منها في اللغة التي كتبت بها أصلا؟ هذا الحب وهذا العشق جعلاه يترجم الديوان إلي العربية, ترجمة بديعة رائقة, لاتحس معها أننا نقرأ شعرا مترجما علي الإطلاق: لا, لن تهرب من لواعج الحب وأنت تعلم أنها قد تفضي بك إلي التلف هكذا قلبي إذا خلا من الحب, عاش معذبا لحرمانه من متعة لو ملكها لعاش بها معذبا *** إذا انبثق النبت والزهر مختلف الألوان فهذا بهاء يأسر الناس جميعا, ويحملهم علي التمتع به ولكن ينبغي للعين أن تمد نظرتها هنا وهناك فلعل أشد الألوان نضرة هي أسرعها للوصول *** مافائدة النوم إذا ذبحني المحبوب في غمضة عين فهل ترك لي وقتنا للنوم؟ هيهات! *** مباهة الحب وآلامه, تلك التي بدت لي حقائق واقعة الآن أدرك أنها بدت لي حلما من الأحلام الحب وحدت فيه للحياة بهجتها وللناس بلسما لجراحهم ولكني وجدت في قلبي الحب يكمن ألم لا شفاء له! *** عما قريب ستخرس قيثارة الحياة وأقول لقلبي وأنا أهدهده: خير لك أن تفيض بأغان ملؤها الحزن من ألا تغني أبدا خيرا أن نعيش هذه الحياة التي نعهدها من ألام نعيش أبدا! في كتاب هذا الشعر للمبدع العظيم يحيي حقي, أجمل ماقيل عن رباعيات صلاح جاهين, وأروع ماقيل عن إقبال وخواطره, وأعمق ماقيل عن شوقي شاعر القبيلة وشاعر العصر... وأبدع ماكتبه يحيي حقي عن الشعر والشعراء!.