خطوة واحدة تجاه العمل، مجرد خطوة استعداد ليس أكثر، لم آخذ الخطوة بعد، النوايا، خطوة ما زالتْ في القلب، تَمَدُّد وتًمًطُّع القدم في الحذاء قبل المشي الحقيقي، مشي جوَّه الجزمة أولاً، صوباعي الكبير ضارب في سقف بوزها، فإذا بالحواجز والأشباح والمسوخ والحشود ترتفع في وجهي، ولسان حالها يقول: النقاهة فرْضُكَ، والراحة سجْنُكَ. اتصال تليفوني من الممثلة الشهيرة. ها هتبدأ كتابة السيناريو إمتي، لو عاوز نمضي العقد؟ صمت. الجزمة جديدة وضيقة. مال الجزمة ومال الكتابة. استعارة يا بنت جهل، معنًي بعيد يُراد به معنًي قريب، قصة طويلة، مش ها تفهمي، يعني لو حدَّثتكِ عن الحواجز والأشباح والمسوخ والحشود ها تفهمي. فرحة غبية. إيه ده هوه الفيلم فيه أشباح، الله. إنتِ تروحي تتعالجي، وأنا كمان، ونتقابل بعد فترة. عنها وقامتْ معيَّطة، زي ما قال الكاتب يوسف رخا في واحدة من استتيوساته. فكَّرتُ أنني لا بد من أن أكون في رحلةٍ، وأنني لن أكون ما أنا عليه حقاً، أي ما أنا عليه بالفعل قبل بدايتها، إلا في نهايتها، وفكَّرتُ أيضاً أن رحلتي لتلك النهاية لن تكون إلا بلقاءٍ مع مَنْ أصبح هو نفسه مرتين، مرة قبل بدايتها، ومرة بعد نهايتها. كان تيد هيوز يٌمشط ظهر الفرس بفرشاة ملفوفة علي ظهر يده بسير من الجلد، وكانت سيلفيا بلاث مُستندةً علي حاجز خشبي تدخن وتفكر، وهي مُسرْنمة بأصوات خرفشة وحمحمة ونخير. رفع تيد يده بفرشاة مُبطَّنة بثمانية خطوط من شفرات حلاقة. مرر إصبعيه بين الشفرات المنتظمة، ليكنس غبارة الشَعْر الناعمة. عاد بالفرشاة إلي ظهر الفرس. نظر لسيلفيا بابتسامة، وغيَّر بغدرٍ اتجاه الفرشاة علي ظهر الفرس. حل الصهيل محل الحمحمة والنخير، وحرثتْ الفرشاة ثمانية خطوط في ظهر الفرس. ليس لأنني لم أكتب يوماً سطراً رديئاً، بل لأن اليأس يُلجمني أمام الجيد والرديء علي حد سواء، وكأنّ ورطتي ليستْ مع الكتابة، بقدر ما هي مع مِهْنة الكتابة ذاتها. كنتُ أحلم بموت واحدة علي يدي اليمني، فتموت الثانية كَمَدَاً وإهمالاً علي يدي اليسري. كنتُ أشعر بالسعادة أمام وصفٍ مجازي يستعمل كلمة الطريق، وفي المُقابل عندما تكون كلمة الطريق تعني طريقاً حقيقياً ملموساً، علي مَنْ يمشيه أن يشعر بالأرض تحت قدميه، كنتُ أتخيل حجراً مُلقًي أكسبه الصمت والزمن ما يشبه الوجود. حبستْ معصم يدها بسلك كهرباء مضفور، فنفر عِرْق أمامه، فتحتْ قبضة يدها وأغلقتها مرتين، وهي تلوي ضفيرة السلك. تمكَّن المحبس من مكانه. ابتسمتْ لصديقتها ابتسامة الهزائم والآلام وتوكيل الخلاص. اقتربتْ الصديقة بشفرة الحلاقة، وقطعتْ رَقَبة العِرْق. دَوَّن واحد في يومياته رسالة من شخص معروف إلي سيدة، ولعل الشخص المعروف لا يعرف السيدة جيداً، كما فعل المُدوِّن بعد مُقابلة يتيمة مع سيدة أخري، مفادها أن الحياة تدور في دوائر مُغلقة، وأن الذين يحيون في دائرة بعينها، تحت آلام وخيبات بعينها، وحدهم يفهمون بعضهم بعضاً، نظراً لطبيعة الدعم المُتَبَادَل بينهم، وهذا الدعم بين المُتألمين الخائبين، يتراوح بشدة من السادية المطلقة إلي المازوخية المطلقة، وصولاً للصمت المطلق من قِبَل طرف مٌتألم أمام طرف خائب، إذ يجتمع أحياناً للطرف الواحد الألم والخيبة، وأحياناً أخري يقتصر الطرف الواحد علي الألم وحده، أو الخيبة وحدها، وفي هذا التماس بين الدوائر، قد يحدث، وإن كان نادراً، أن يأخذ الطرف المُتألم حمولة الخيبة من الطرف الخائب، الذي يأخذ بدوره حمولة الألم من الطرف المُتألم. حَرْفياً عندما أُصيب صاحب ظاهريات الروح غيورغ فيلهلم فريدريش هيجل بالكوليرا، وكان تحت وطأة أعراض المرض، ولنا كل الحق في إضافة الأعراض الأصيلة للسخرية والمُفارَقَة والكوميديا السوداء الكونية، أرسل رسالة أخيرة للعالَم الخارجي، وهي لا تتعدي شخاخه المميت علي الروح. أعدتُ علي نفسي السؤال عينه، بكلمات أخري، لكنني أعرف فداحة النبرة التي تصهر كلماتي جميعاً، لتضعها أمام إجابة مستحيلة، أمام ما تأخذني البطالة إلي الهزيمة في حضرته من حين لآخر، بصوت منخفض، وتهويدة يأسٍ، عابراً بجانب مرآة. كان يوماً من أيام الشتاء. وكان تأكيده علي أنه يوم من أيام الشتاءء، هو الدفاع المُكرَّر أمامها، ولأنه دفاع قد يتعلَّق بحدثٍ مرَّت عليه سنوات أو شهور أو أسابيع، ولأن الحدث لم يكن يستحق في اعتقادها أن يحشد له دفاعات سقطتْ مع الوقت جميعها، ولم يبق أمامه إلا أسخفها في تبرئة ساحته، وهي تبرئة لم تكن تطلبها، ولا تفكر فيها، وتري أنه قد يقصد في النهاية كعادته نكتة طويلة تتحول مع الإصرار عليها إلي شيء عبثي جامد، وعصاب قهري يردد إلي ما لا نهاية: كان يوماً من أيام الشتاء. حاولتْ مراراً أن تنتزع منه الابتسامة. تعرف أن نهاية كل نكتة لا بد لها من ابتسامة، قفلة، محبس. راقبتْ شفتيه كما لم يحدث في لقاء حب بينهما. قالت في سرها وهي تبتسم: يا لهوي لا يكون ناوي يقفل النكتة بابتسامة لنفسه، وهوه بيعمل النيسكافيه، وهوه بيحلق ذقنه، وهوه قاعد علي كرسي الحمَّام. تزوجا منذ خمس سنوات. ماتت المشاعر بالسكتة القلبية بين الزوج والزوجة بعد سنتين، وبدأ جحيم البقاء وجهاً لوجه. لم ينجبا. فكَّرت الزوجة أيضاً بسخرية أن الشتاء المصري الضامر في شهرين هزيلين من شهور السنة لا يستدعي القول الدراماتيكي: كان يوماً من أيام الشتاء. كان خطأ منها أن تترك دفاعاته في السقوط، دفاعات ما قبل كان يوماً من أيام الشتاء. لكنها لم تكن تعرف أنها دفاعات من الأصل. قد يتعلَّق الأمر ببداية رواية أو قصة يكتبها. يا حِزني علي ديه مهنة. لو طرحتُ شتاءات عمري من شتاءات عمره، أكبر مني بأربع سنين، الباقي يبقي له علاقة بكان يوماً من أيام الشتاء. يمكن قصده إن ثورة 25 يناير كانت في يوم من أيام الشتاء. كتب بعد الثورة تحت تأثير إحباط لا يقوي الراشد علي تحمله، وهي الصيغة العامة لأمراض علم النفس. أصل الحكاية أن الثورات لم تلجأ يوماً في تاريخها الطويل، إلا فيما ندر، وما ندر لا يُقاس عليه، إلي اللون الأبيض، وبينما يعتمد الطرف المقابل لها لوناً أحمر، بدرجاته القرمزية والبنكيَّة والروزيَّة، تظل هي رومانسية مُمِلة بلونها الأبيض المفضوح، ولا عزاء لقوس قزح الراقد في رحمها الأبيض. قالت الزوجة بصوتٍ أكثر تتبعاً ومتعة في التقصي: من شهر أغسطس الآن، أي من يوم صيفي، يستدعي يوماً من أيام الشتاء، الاستدعاء وليس التأكيد كما يظن. حدث فعلياً أن رددتْ الزوجة أكثر من الزوج: كان يوماً من أيام الشتاء. استيقظ فرانز كافكا في نهاية أسبوع من شهر مارس سنة 1917 في الساعة الرابعة عصراً، وعلي غير عادته،كان قد قطع في النوم العميق اثنتي عشرة ساعة. أدركَ علي الفور ضياع موعد الصديقين في الواحدة ظهراً، لمُشاهَدة بروفا تجريبية لمسرحة شخصيتي بوفار وبيكوشيه لكاتبه المُفضَّل جوستاف فلوبير، لكنه ما زال فَرِحاً بقطعه اثنتي عشرة ساعة من النوم المتواصل، وعلي الأقل الآن يشعر بحرية عدم التفكير في النوم مرة ثانية طوال الثماني والأربعين ساعة القادمة، ولكنه أيضاً من الصعب عليه التخلُّف عن موعد ضربه مع أحدٍ ما، فما هو الحال إذا كانا صديقين مُقربين. قام من فراشه بثقل لذيذ في جانب رأسه الأيمن، حَاوَلَ بحنين أن يتذكَّر آخر مرة استمتع فيها عند اليقظة بالوخم والخمول، فلم تسعفه الذاكرة. خرج من غرفته في وقت كانت أوتلا شقيقته تفتح الباب الخارجي لصديقيه اللذين انتابهما القلق لعدم حضور كافكا في موعده. هو علي باب غرفته، والصديقان علي الباب الخارجي، وأوتلا ظهرها لأخيها. نظرة الفزع في عين الصديقين جعلتْ أوتلا تلتفت إلي شقيقها. كانت بلطة صغيرة مزدوجة السلاح مغروسة في جانب رأسه الأيمن، وكان المقبض الخشبي القصير للبلطة، طائراً في الهواء خلف رأس كافكا. صرختْ أوتلا، وهي تضع يدها علي فمها لكبت الصرخة. اقترب الصديقان من كافكا، ولم تجرؤ أوتلا التي اتجهتْ إلي باب غرفة الوالدين طلباً لدعم معنوي. حَاوَلَ كافكا أن يقطع علي شقيقته طريق إزعاج والديه، لأنه ينفر حتي من إمكان معرفتهما بشيء يتعلَّق به، وهو ما زال يجهله، إلا أن صديقيه أخذا يديه إلي مرآة حائط. حرَّك كافكا رأسه أمام المرآة، ليري مقطعاً عرضياً لجانب رأسه، ومع الحركة بدتْ البلطة ثابتة بإحكام في جانب رأسه الأيمن، وبدا سلاحها الأبيض مغروساً إلي منتصفه في جانب رأسه. كان الجرح نظيفاً، وقريباً من حاجبه كان النصل يلتحم باللحم، وعلي امتداده كان غائراً في فروة شعره. ضغط كافكا حول النصل بحرص، وكأنه لا يستشعر المأساة، بقدر ما يستشعر التعامل معها في المستقبل. قال والده بصوت حازم: كن رجلاً وانزع هذا عن رأسكَ. وبعد التحقق الدقيق ظهر للجميع بما فيهم الوالد أن نزع البلطة عن رأسه فيها موته. دخل كافكا إلي غرفته هادئاً، اقترب من النافذة. كان صديقاه يبتعدان في الشارع. فكَّر أن أحدهما يُحدِّث الآخر في مشاريع اختراعات علمية، ولبعد المسافة بينه وبين صديقيه، لم يعرف مَنْ هو بوفار ومَنْ هو بيكوشيه. يبدأ فيلم برسونا لإنجمار برجمان من نقطة قصوي، وهي احتراق شريط فيلم داخل آلة العرض السينمائي. وكما لو كان احتراق شريط الفيلم يعود بنا إلي صوره الأوليَّة، أو كما لو كان شريط الفيلم يسترجع أمامنا للمرة الأخيرة سيولة ذاكرته. عنكبوت ذئبي بسيقان مُشْعِرة، عينان مغلقتان تنفتحان بتزامن مع تغيير حجم اللقطة وثبات الزاوية مما يُحدث قفزة مُفاجئة، وجه عجوز صامت، رسم كرتوني مقلوب لامرأة تغسل ساقيها في بحيرة، أطراف أياد وسيقان مرتخية، مسمار يُدق في راحة يد، أحشاء خروف تنزلق لامعة مُخاطية. لا طريق لنا في قراءة فيلم برسونا عبر بدايته القصوي، أي أن احتراق الفيلم داخل آلة العرض السينمائي، ليس له علاقة بقصة الفيلم الحقيقية التي تبدأ مُباشرة بعد تتابع الصور القصوي. أثناء دراستي للسينما كانت مُحَاوَلَة دمج مسمار يخترق بطن اليد- صورة قصوي- مع حياة الممثلة إليزابيث فولجر- صورة حقيقية- هي سقطة التأويل المفرط الشائعة في قراءة الفيلم. وكان معيار المرح واليأس أن يصل أحد الدارسين إلي سؤال، إذا كان شريط الفيلم المُحترق داخل آلة العرض السينمائي، هو نفسه فيلم برسونا؟ أو أن يصل واحد أكثر شططاً إلي الربط بين احتراق الراهب البوذي في أحداث سياسية داخل المادة التلفزيونية المعروضة أمام إليزابيث فوجلر، وبين احتراق شريط الفيلم داخل آلة العرض السينمائي، وكأنّ صور فيلم برسونا الحقيقية، هي سيولة ذاكرة البوذي المحترق، بالرغم من السبق الزمني لواقعة انتحار الراهب البوذي علي زمن تصوير فيلم برسونا. بصوت هادئ تحكي الطبيبة حالة ليف أولمان للممرضة بيبي أندرسون. تقرير الطبيبة مٌحايد وصاف ومعزول عن أدني تعاطف إنساني، تقرير موضوعي، وكعادة برجمان يتم حرق النقاط الضعيفة درامياً ببرود، فيبقي تقرير الحالة عارياً إلا من أداء الطبيبة القوي، وبساطة الميزانسين، والتقاط أبعد التفاصيل لراحة الكاميرا، فبينما تستمع الممرضة ألما إلي تقرير الطبيبة، ترتاح الكاميرا علي يديّ الممرضة المضمومتين وراء ظهرها. تتعرَّض إليزابيث فوجلر علي خشبة المسرح أثناء أداء دورها لمسرحية إلكترا إلي صمت مُفاجئ، وتنظر النظرة الشهيرة لممثلي برجمان، وهي نظرة تكاد تصطدم بعدسة الكاميرا، نظرة مُرحَّلة قليلاً عن عين العدسة، وعن عين المُشاهِد، نظرة توهم بأن عين العدسة ليستْ هي عين المُشاهِد. إن المعضلات التقنية تذوب في سينما برجمان مع معضلات جمالية مُجرَّدة، بمعني أن التطابق الآلي والتقني بين عين الكاميرا وعين المُشاهِد لا يسمح بحفر ممر ضيق خطير تنفذ منه النظرة إلي أفق غير محدود. تعود ليف أولمان بنظرتها إلي الجمهور الحاضر في كتلة سوداء بفعل كشَّافات الضوء المُسلَّطة عليها، وتهم بقول كلمات المسرحية، لكنها لا تستطيع سوي العودة مرة ثانية بنظرة الاستغاثة الباردة التي تنفذ كما الشعْرة بين عين العدسة وعين المُشاهِد، ويبقي الانطباع الغريب لأحمر شفاه الممثلة الخارج قليلاً عن حدود الشفتين ألماً رخيصاً لا مثيل له طوال الفيلم. يتحدَّث برجمان في سيرته الذاتية عن مخلوق يعيش داخله، يتحرك في أعماقه، ويوشك علي ولادته، هذا المخلوق، نصفه إنسان، والنصف الآخر مسخ، ورغم أن الكائن المسخ يأتي في سياق حديث برجمان للتعبير عن حالته الإبداعية في زمن الشيخوخة، إلا أن كلماته عن الكائن المسخ، تصلح بأثر رجعي، وبشكل لا شعوري، لتفسير الصورة الشهيرة الشائهة في فيلم برسونا، بين وجهيّ بيبي أندرسون وليف أولمان، أكثر علي سبيل المثال، من انزعاج ليف وبيبي عندما عرض برجمان عليهما في غرفة المونتاج، تركيب الوجه، وكان انزعاجهما من مُفاجأة القبح المنسوب إليهما. أعتقد أن برجمان كان سعيداً بالتملُّص الأنثوي الرقيق، وكأنَّه حاز العمق والسطح معاً. في حلم لليف أولمان، كانت بيبي أندرسون علي حدود غابة، وكانت تتبادل مع زوجها وطفلتيها، قذف كرات صغيرة من الثلج، وعلي بعد بضعة أمتار، وبزاوية منحرفة كانت ليف تقف ساكنة. وليس لأدني عاطفة كانت تشعر بها ليف ناحية بيبي، بل لأنها في زاويتها المنحرفة أحستْ بالوحدة والغيرة، تناولتْ كرة كبيرة من الثلج، وقذفتها علي بيبي. انتبهتْ العائلة إلي الغريبة التي دخلتْ في المشهد. كان مثلث من النظرات في غاية الإحراج. بيبي علي رأس المثلث، والزوج والطفلتان وليف علي قاعدة المثلث. حاولتْ ليف مرة ثانية بكرة ثلج أكبر، وهي تقترب من بيبي، فأسرع الزوج والطفلتان لتغطية بيبي أندرسون بأجسامهم.