عرضنا في المقال السابق المصطلح الأول »العلمانية« بفتح العين، وكشفنا عن محاولة تعديله ليكتسب بعض الصلاحية للمجتمع العربي »المتدين بطبعه« وذلك أن المعني الأصلي للمصطلح لا يصلح لأي مجتمع يحترم عقيدته الدينية، وأنا علي يقين من أن دعاة هذا المصطلح يدركون أنه لم يكن له حضور حقيقي إلا في بيئة مكانية وزمانية محددة: »الاتحاد السوفيتي« قبل تفككه، إذ ما إن تفكك، حتي أسرعت دويلاته إلي مرجعيتها الدينية. أما المصطلح الثاني »العلمانية« فهو نسبة إلي العلم، ومن ثم لا يرفضه إلا كل متخلف فكرياً وحضارياً، ذلك أن العلم له حضور بدهي في كل نواحي الحياة، وليس معني الحضور، أنني قبل أن أشرب، أو آكل، لابد أن استحضر بحوث الكيمياء، أو الفيزياء - مثلاً - فهذا مكانه معامل البحث العلمي التي تقدم ما توصلت إليه لخدمة المجتمع. إنما يعني حضور العلم، حضور »المنهج العلمي« في مسيرة الانسان الحياتية، فيربط المقدمات بالنتائج، والأسباب بالمسببات، ولا يغيب هذا المنهج إلا عند اعتماد العقل علي الفطرة والطبيعة، وهما ما يؤكدان أن الانسان كائن متغير، كما قال أصحاب مصطلح »العلمانية«، لكن هذا التغير في »العرض« لا »الجوهر« فجوهره ثابت بفطرته التي فطر عليها، ولهذا فان »العلمانية« لا تتدخل في النواحي الجزئية، والتفصيلات الفرعية، فهذا متروك لفطرة الإنسان، وهي فطرة تدرك التشابهات والتخالفات، تدرك الضار والنافع، إذا كانا مما يدركان بالفطرة. ولاشك أن الدين - أي دين - ترك للإنسان مساحة واسعة من حرية التفكير الذي يسير به حياته، والدين الاسلامي يقوم علي ثلاثة أعمدة أساسية: »العقيدة والعبادة والمعاملات«، أما العقيدة والعبادة، فهما علاقة بين »العبد والمعبود« ولا دخل لأحد في هذين الأساسين، ولعل هذا يذكرني بما حكاه لي يوماً الدكتور مصطفي ناصف عن أستاذه »طه حسين« عندما عاد من العمرة، وسأله أحد الصحفيين عما قاله وهو واقف أمام الكعبة، فرد عليه قائلا: »عجبت لأناس يريدون أن يدخلوا بين العبد وربه«. أما المعاملات، فهي مجال الاجتهاد العقلي والعلمي الباحث عن المصلحة العامة المشتركة في حديث الرسول »صلي الله عليه وسلم« »أنتم أعلم بشئون دنياكم«، وفي هذا المجال يمارس المنهج العلمي حريته بلا حدود، إلا حدود حرية الآخر، لأن الحرية في هذا، تكون عدوانا لا يقره »العلمانيون« بفتح العين وكسرها.