التجارب الشعرية الكبيرة في تاريخ العالم، هي التي تمكنت من أن تتفاعل مع الثورات الشعبية، تحرض عليها بداية، لكونها صاحبة القدرة الطليعية علي تلمس الطريق، ثم انتشرت معطياتها وآلياتها بعد ذلك، لتجسدها فكريا وجماليا في نصوص حية باقية في ضمير الشعوب، وديوان (موسيقي القرب) لعبد الحكم العلامي والصادر قبل بداية هذا العام عن جماعة »بدايات القرن« استطاع أن يجسد الأزمات الكبيرة التي يعيشها الشعب المصري، وعندما يتلمس الصبي خطورة الوضع العام الذي يعيشه الناس فيخاطب أباه قائلا: (إنهم مجرمون يا أبي!!) وقد التقطت التجربة طبيعة الحياة المصرية فقدمت لنا معني الطيبة التي يتحلي بها الإنسان المصري البسيط علي الرغم من قهره الطويل، والتقطت التجربة معني الأخوة الطبيعية بين عنصري الأمة، والشاعر يتذكر بشكل نوستالجي دافيء صداقته الحميمة لزميله القبطي في المدرسة وفي البيت، بمنطق طبيعي تتلاشي معه الادعاءات والمؤامرات الزائفة، كما قدمت التجربة أيضا حس المأساة الذي يشكل خصيصة سائدة في حياة المصريين، يمكن أن تعبر عن فقرهم وأزماتهم الاقتصادية الطاحنة، وحاجاتهم الأولية غير الملباة. وإذا كان الحاضر في حالة ذوبان دائمة، فعلي الإنسان أن يناضل من أجل أن يتحقق، ومن أجل أن يكون العالم أكثر جمالا، وأكثر عدلا، وبحث الإنسان عن التحقق حلم قديم بالتأكيد، منذ بداية الخليقة، وهذا هوالمعني الذي يبدأ به الشاعر ديوانه (منذ بدء الخليقة/ وأنا أبحث عن موضع/ تحت هذي الشمس) ولعل موت »بخيتة« المرأة القروية التي لازمت الشاعر في طفولته وصباه كان رمزا لهذه المأساة التي يعيشها الإنسان الجديد، لأن هذا الموت يجسد الشعور بالنقص والافتقاد، النقص الذي عبر عنه الشاعر من خلال الإحساس بالجوع، والجوع هنا بالطبع ليس جوع البطن فقط بل هوجوع العقل، أوجوع الروح، أو هو الجوع للجمال، وللاشباع النفسي.. وهكذا: (هات لي حزمة واحدة، من »سَبَل« القمح الاخضر، إنني جائع ياأبي، وقد ماتت »بخيتة«، وأنا الآن مصاب بعضة الجوع!!) وتتميز التجربة بمجموعة من الخصائص التي تعمل مجتمعة، ويمكننا أن نفرق بينها الآن لكي نمارس شيئا من التحليل، ولكن لايمكن الفصل بينها في أثناء عملية التلقي الشعري، وهي الخصائص التي تضع تجربة الشاعر في منطقة جمالية مميزة هي التي تنتمي إلي التجديد الذي يتجاوز كل الماضي، لأنه يعتمد علي الاستفادة من كل الماضي، والاستفادة في الوقت نفسه من كل رؤية جديدة يطرحها الإبداع الجديد. أولي هذه الخصائص اعتداد التجربة بالذات في جانبها الشخصاني، فالنص كلةه يدور حول حياة الشاعر الشخصية، وفي كثير من المواضع نتعرف علي لحظات صغيرة عابرة في حياته، وقد عدها شهادة حقيقية علي تجربته في الحياة. ثانية هذه الخصائص هي إمعان التجربة في البحث عن الجذور، بادية من الاصول البعيدة في مجاهل القارة الأفريقية، بل ويمكن أن يكون عنوان الديوان »موسيقي القرب« مشيرا الي الموسيقي الشهيرة المرتبطة بالحضارة الآسيوية، ثم تنتقل التجربة لتناقش العلاقة بالواقع المصري وبالقرية التي ينتمي لها، وبذكريات الطفولة والسواقي، و»سَبَل« القمح و»مصطاح« الذرة، ومقامات الشيوخ وغيرها، وكذلك علاقته بالنيل، ثم يتعرض لعلاقته بأبيه وبأصدقاء الطفولة. وعندما تبحث تجربة العلامي عن الجذور الأفريقية، ترسم صورة لهذا الأفريقي البدائي: (أنا رجل/ من إفريقيا!/ منذ بدء الخليقة/ وأنا أركل الحصي/ حافيا!) ثالثة هذه الخصائص الإلحاح علي »النوستالجيا« لأن الحاضر قاس، والمستقبل غامض، فيحن الشاعر لأصدقاء طفولته، ويحن لكل المعطيات القروية التي عايشها في طفولته، فيتذكر الشجرة التي كان يستظل تحتها مع أصحابه، ويحن لترعة »أبو قريصة« التي كانوا يسبحون فيها، أو يلهون حولها، ولكن »النوستالجيا« في حد ذاتها هشة وهروبية، لذا فالشاعر لايكتفي بتذكر الماضي، بل يعمل علي أن يقارنه باللحظة الحاضرة وبحلم المستقبل. رابعة هذه الخصائص الإيمان بالتغيرات المطردة التي تشهدها الحياة، وبالفعل لم يعد هناك مجال للثبات، فالتغير أصبح مصير كل شيء، وكل لحظة تصب في العدم، لأن لحظة غيرها ستحل في محلها بشكل مطرد ولا نهائي، والشاعر يكرر في أكثر من موضع عبارة »كل شيء قابل للانهيار«. خامسة هذه الخصائص وأكثرها دفعا للتجربة في طريق ما بعد الحداثة، هي الاستفادة من مدارس فنية متعددة في الوقت نفسه، فالنص قد يأتي بلغة تقليدية مشبعة بالبلاغة القديمة في بعض السطور، وفي سطور أخري نحس بالمعاني الرومانسية النقية، وقد يأتي الشاعر بالخرافة القروية، أو يتحدث عن الغيبات أو يتحدث عن كرامات الشيوخ، وفي موضع آخر يمكن للنص أن يستخدم التقنيات الجمالية، أو أن يطرح المجاز اللغوي الكثيف الذي عرفناه في الشعر الحداثي في السبعينيات: قلت لصاحب »هالة القمر النصفي«/ احك لي عن هالة القمر،/ فارتقي سلما، ثم قال: سأقيم علي حواف الروح، مايشبه البحيرة. ص 46) سادسة هذه الخصائص الانحياز للمرأة، وتأكيد القضايا النسوية التي تجعل من »بخيتة«و »نعمات« ركنين أساسيين للحياة، فالحياة بدونهما تكاد أن تفقد معناها، ويظل الشاعر حتي السطر الاخير من الديوان يتذكرهما، ويجسدهما، ويجعلهما سندا لتجربته في الحياة منذ البداية ومن تقنيات هذه الكتابة، الاستفادة من »التضاد« بالمعني مابعد الحداثي، الذيبرز رؤية الشاعر الشمولية أوالجدلية، فلم تعد الحياة اليوم سوي حوارات بين معطيات متعددة متجاوزة أو حتي متضادة، وكل معطي صار يعانق نقيضه،. وأكثر التضادات مأساوية في الديوان هوموت »بخيتة« محترقة، وهي رمز للمرأة القروية البسيطة الجميلة بداية من اسمها، وهي مصدر الطمأنينة والحب والعطاء واسمها ذاته يعني الحصول علي البخت، وتحقق الأحلام، ويظل احتراقها رمزا للتآمر، ولكال الإحباطات التي يعاني منها فقراء الوطن وبسطاؤه.