Photo: Serge Cohen يلاحظ أن عزلة حقل الدراسات الإعلامية عن مجالات وحقول البحث الاخري في العلوم الاجتماعية ترتبط بأساليب وطرق البحث التي صاحبت بدايته، وهذا الموقف لم يعد من الممكن تبريره إذا كان للأبحاث الإعلامية أن تلتزم وتكرس نفسها لقضايا التغيير الاجتماعي، كذلك نلاحظ ان هذا النقص الخطير لايزال واضحا في كل الحالات التي يفشل او يقصر الاعلام في ان يأخذ في اعتباره النظريات الاجتماعية الاعم والاشمل. لهذا فان البحث الإعلامي لابد ان يكون مسئولية مشتركة بين فرق بحثية من تخصصات او فروع علمية متعددة تحكمها درجة عالية من الانضباط وتسترشد ببرنامج علمي منسق يحدد المشاكل داخل السياق الاجتماعي، ويقوم بتصميم المناهج والنماذج المناسبة لاستكشاف هذه المشاكل، كما يستكشف البدائل المتاحة داخل الانظمة الاجتماعية، ثم يطرح سياسات بحثية صالحة للتنفيذ. ويقودنا هذا إلي الحديث عن موضوع التداخل والتزاوج بين فروع العلم الاجتماعي والانساني حيث يبرز امامنا خطأ الرؤية التي تدعو إلي الدمج الكامل بين العلوم مغفلة ظاهرة التخصص العلمي الذي يتم من خلال عملية انقسام العلوم، كما يتضح ايضا خطأ الرؤية الاخري التي تصرّ علي وضع فواصل عازلة بين العلوم متجاهلة نقاط التقاطع والتداخل بين التخصصات العلمية والتي انتجت تخصصات جديدة تتشابك فيها فروع العلم الاجتماعي وتشكل ما يعرف بسوسيولوجيا العلم.
ورغم ان مصطلح التكامل المعرفي او التداخل بين فروع العمل الاجتماعي قد بدأ في الظهور منذ عام 7391 علي يد عالم الاجتماع (لويس روبرتز) كما طالب معهد الدراسات الانسانية بجامعة ييل الامريكية بازالة الحواجز التي تفصل بين العلوم المختلفة منذ نهاية العشرينات، الا ان قضية الجمع بين التخصصات العلمية لم تحظ الا باشارة طفيفة في العمل الكبير الذي نشرته اليونسكو تحت عنوان (اتجاهات البحث الرئيسية في العلوم الاجتماعية والانسانية) الصادر عام 0791، حيث تناول بعض العلماء المشكلات الرئيسية للبحث القائم علي التكامل المعرفي وآلياته المشتركة وأشاروا الي خطورة العزلة العلمية كما اكدوا صعوبة أن يجمع الباحث الفرد بين التخصصات متعددة، ولذلك نادوا بنوع من العمل الاجتماعي المشترك الذي يعمل فيه العلماء كفريق متعاون، وقد أشاروا الي نجاح العمل الجماعي في حقل العلوم الطبيعية، أما في مجال العلوم الاجتماعية فقد رأوا ان العمل الجماعي لم يحقق نفس القدر من النجاح الا في مجال انتاج المعلومات وتجميعها، وقلما يوجد في مجال تفسير الحقائق والتأليف بينها في وحدة فكرية جامعة. ورغم ذلك فان المشروعات البحثية الكبري والتي تقوم بها الهيئات الدولية او القومية انما تقوم علي تعزيز وتنسيق البحث الجماعي وهو الامر الذي أدركت هذه المنظمات أهميته القصوي، لذلك فان ماتنشره هذه الهيئات من أبحاث عادة ما تحمل توقيعين او ثلاثة توقيعات وقلما تتجاوز ذلك.
ويقدم تاريخ العلوم الاجتماعية أمثلة متعددة للمشروعات البحثية الناجحة القائمة علي التكامل المعرفي، وفي العلوم الاجتماعية كما هو الشأن في العلوم الطبيعية يتحقق التقدم العلمي عادة في المواقع التي تحمل حدودا مشتركة بين علمين او اكثر أو عند التخوم الفاصلة بين هذه العلوم، كما يتم التوصل الي أكثر الابداعات اصالة واعظمها نفعا من خلال الربط بين التخصصات العلمية التي تقع عند نقاط التقاطع للعلوم المتعددة. ومن أجل تحقيق التقدم يتعين علي البحث العلمي، ان يكون علي درجة عالية من التخصص وأن يوسع من حدود البحوث التكاملية التي تؤلف جزءا من منظومة تشمل الجوانب المعرفية والمفاهيم ومناهج البحث والفروض والافكار اي تشمل الأطر المعرفية والنظرية والمنهجية والاجرائية المشتركة. واذا كان البحث العلمي الاحادي التخصص يؤدي دورا جوهريا في تقدم المعرفة العلمية بيد ان الاعتراف بهذا الدور الجوهري لا يتعارض مع الايمان بضرورة التزاوج والتداخل بين العلوم، وخصوصا ان العلوم الاجتماعية تحوي موضوعات وقضايا متشابكة ومتداخلة تتفاوت اهميتها، وبقدر ما تزداد أهمية المشكلة بقدر ما تزداد القضايا تعقيدا، الامر الذي يستوجب الاستعانة بالمدخل العلمي القائم علي التكامل المعرفي، والواقع انه لا يمكن فهم الظواهر الكبري للحضارة في اطار المنظور الضيق الذي يسمح به التخصص الأحادي وما لم يتخذ المرء موقعا عند تقاطع الطرق بين الفروع الكثيرة للمعرفة فانه لن يقدر علي تفسير امور كثيرة مثل انهيار الاتحاد السوفيتي او أفول نجم انجلترا في الخمسين عاما الاخيرة أو الانفصام بين الصفوة المثقفة وقضايا المهمشين والفقراء في الريف او فشل زعماء دول العالم الثالث في بناء تجارب تنموية مستقلة او قضايا العنف الفردي والجماعي. وفي الدراسة التي اعدها (كارل دويتش) ورفاقه ونشروها تحت عنوان (الانجازات الكبري في العلوم الاجتماعية) والتي احتوت علي مايقرب من مائة انجاز علمي كبير نجد ان ثلثي هذه الانجازات يقع في المجالات التي تشكل نقاط التقاطع والتداخل بين العلوم او التخصصات المختلفة، وفي العلوم الاجتماعية توجد مجالات بحث مشاكل مراكز ابداع كما توجد مجالات بحث تشكل حواشي خارجية تهتم بالاستهلاك والتمدد اكثر من اهتمامها بالخلق والابداع. ولا شك ان تعدد التخصصات العلمية يكون اكثر شيوعا في البحوث الابداعية الخلاقة منه في البحوث الاستهلاكية الطرفية. وهذا وبالرغم من اعترافنا بأنه بالنسبة لبعض العلوم الطبيعية يعد مفهوم النموذج العلمي امرا ذا صلة وثيقة الا انه يجب التأكيد علي ان النماذج العلمية تنشأ غالبا وتظهر عند نقاط الالتقاء بين التخصصات العلمية، ولكن هل يمكن ان يكون مفهوم النموذج العلمي مناسبا لطبيعة العلوم الاجتماعية؟ وهل يوجد في تاريخ العلوم الاجتماعية امثلة للانقلابات العلمية تشبه تلك التي حدثت في تاريخ العلوم الطبيعية علي ايدي كوبرنيكس ونويتن واينشتين؟ وهل يمكن وصف النظريات التي قدمها (ماركس وكينز وشومسكي وبارسونز) وعلماء مدرسة فرانكفورت علي انها تمثل نماذج علمية ثابتة؟ وهل يحدث التقدم في العلوم الاجتماعية من خلال الثورات التي تهدم النماذج العلمية السابقة أم من خلال التراكم المعرفي ؟ وهل توجد نماذج علمية ثابتة حقا في العلوم الاجتماعية.
في العلوم الاجتماعية يمكننا ان نري العديد من النظريات التي تتعايش وتتزاوج ولكن لا يوجد أنموذج علمي الا اذا وجدت نظرية قابلة للتحقق والاختبار يمكنها السيطرة علي غيرها من النظريات وتحظي ككل بالقبول في الوسط العلمي. وفي مجال العلوم الاجتماعية لا توجد اكتشافات جوهرية تتناول الاصول الاساسية لهذه العلوم علي خلاف الحال في العلوم الاجتماعية وبدلا من ذلك يتم صياغة وبناء نظريات يتعذر اختبارها او التحقق من صحتها، ويرجع السبب في ذلك جزئياً الي أن الواقع الاجتماعي يتغير بوتيرة اسرع وأكثر تعقيدا وتشابكا من المحيط الطبيعي.. وقد يبدو من الاصح ان نتحدث في مجال العلوم الاجتماعية عن وجود نظرية أساسية أو تقدم كبير في المعرفة فذلك أفضل من الادعاء بوجود نموذج علمي ثابت فيها، لان ذلك يقتضي الاقرار بوجود مضامين ودلالات نظرية غير متوافرة في العلوم التي لا تقوم علي التجربة العلمية، لقد اصبح من الامور المعترف بها الان أنه لا يوجد نموذج علمي ينشد الوصول الي ما هو اكثر من تنظيم حقل العلوم الاجتماعية فضلا عن توحيد هذه العلوم. وفي تاريخ العمل الاجتماعي نلاحظ عملية انفسام العلوم الاساسية، ومن ناحية اخري نشاهد عملية اندماج بين التخصصات الناجمة عن عملية الانقسام السابقة. وربما يصبح الحقل المهجن الجديد مستقلا استقلالا تاماً كما حدث لعلم النفس الاجتماعي والمعلوماتية، وهذه التخصصات العلمية المهجنة تنقسم الي فروع جديدة بدورها مما يؤدي في الجيل الثاني لها الي ظهور عدد أكبر من التخصصات العلمية المهجنة، وتنطبق هذه الحقيقة علي علم الاتصال وعلي البحوث البيئية وعلي علم تخطيط المدن، وهناك ثمانية علوم تنتشر مباحثها في كل من العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية، وهذه العلوم هي: الانثروبولوجي ، والجغرافيا، وعلم النفس . وعلم اللغة وعلم الديموجرافيا، وعلم الاثار القديمة، وعلي الاتصال، وعلم المعلوماتية.