أكثر من مرة قال لي نعمان عاشور: - سأكتب قصة »ميمي ياحبة عيني!« ونعمان - ومازال - يكتب القصة القصيرة كما يكتب المسرحية..!! وفي مسرح الأزبكية ، ترتفع الستائر عن (ميمي ياحبة عيني) وقد أصبحت مسرحية من فصل واحد عنوانها (الليلة الحمراء) التي تسبقها (الليلة السوداء) و(الليلة البيضاء). ويفصل بين المسرحيات الثلاث، نزول الستائر وارتفاعها، لكن المشاهدين يسمعون مع بداية كل مسرحية أغنية عن الليل.. ماهو ؟ وما هي هذه الليالي؟. فهل ليالي نعمان ليلة واحدة من العمر ؟ أم أنها شرائح سريعة من أعمار أشخاص مختلفين، أم أنها ورقات يلعب بها الناس بيضاء وسوداء وحمراء؟. أظن ان الفكرة من تقديم الليالي الثلاث هي عرض شرائح متماسكة من تيار الزمن والناس! ونعمان، يستطيع أن يكسو الليالي بروحه الساخرة، وقدرته المسرحية فهل خرجنا بعد مشاهدة المسرحيات بهذه النتيجة؟ ويسكي وقمار وليلة بيضاء تعرض الليلة البيضاء موقفاً لمجموعة من الناس يعيشون في (فراغ).. كأنهم محاصرون في مكان قريب من مائدة القمار، وفي ايديهم كئوس الخمر وفي حديثهم سخرية حاقدة علي (التقدم). وهؤلاء الناس هم إقطاعي سابق يشرب كثيراً، ويشنع علي الكادحين، ويقول إن رمز الإرستقراطية المصرية البائدة هو (السفرجي) بقفطانه الأبيض، وحزامه الأسود، ولونه الأسود أيضاً!. وسيدات يلعبن القمار ويمضغن سيرة صاحب البيت (علنا) لانه يخون زوجته مع ممرضة! وسيدة البيت، قلقة، محطمة الأعصاب، تسمع سيرة زوجها، وتعرف خيانته، وتشرب وتقامر! والليلة البيضاء، (سهرة) تقيمها هذه المجموعة احتفالا بعيد زواج الطبيب الذي يخون زوجته، والسيدة التي تشرب كثيرا!! ولكن رب البيت، لايعود لبيته.. وينصرف الضيوف، وقد انذرهم النهار بأن الليل قد انتهي! وتبقي الزوجة المخدومة.. وتطلب كأساً من الويسكي.. ويحضر الخادم زجاجة الخمر، في »جمجمة«! ويقف الخادم وسط المسرح! ويصب الخمر في الجمجمة! وتصرخ سيدة البيت »خوفا«! وتستغيث بزوجها أن ينقذها من الخادم! ولكن الزوج غائب.. والخادم يواجهها. ولا أحد معها من أصحاب الليلة البيضاء.. وليس في المسرح إلا »خادم« وخمر وخطوة واحدة نحو السقوط!
السوداء..! وقبل أن ترتفع الستائر عن الليلة السوداء تسمع الأغنية التي يلحنها سيد مكاوي فيما يبدو! وفي البداية، نجد انفسنا في جو مقبض خانق، لم ينجح نعمان مؤلف الكوميديا الكبير في تحطيمه! لقد مات سمسار ، بالسكتة القلبية وترك وراءه ثلاثة ابناء وزوجته و21 جنيها! وأهم ما يشغل أبناءه وأقرباءه.. - المحترمين الذين يظهرون بمظهر النذالة ! - هو النعي الذي تنشره الصحف! وفي الصباح ، يظهر أكثر من نعي! واحد يقول ان الميت يشتغل سمسارا! ونعي آخر يقول إنه كان وسيطا تجاريا! وكلمة »سمسار« يستخدمها أبناء الميت لانهم لايخجلون من ان يذكروا حقيقة أبيهم! أما كلمة »وسيط تجاري« فيستخدمها الأقرباء المحترمون، الأنذال لانه لايليق بالسمسار ان يكون قريب مستشار أو وكيل وزارة أو مدير عام وتنزل الستارة وأقوي ماتركته فينا المسرحية.. شعور بالانقباض الشديد! لايتركنا حتي بعد عودتنا إلي بيوتنا! ليلة حمراء .. حب وسهر! والليلة الثالثة- حمراء- لأب بريد- يفتح بيته لميمي الغانية التي كان الناس يأكلون لحمها وينشرون حولها الإشاعات ثم أصبحت »حطاما« يعرضون عنها، فلا تجد ملجأ.. ولايتركها الناس لحالها! والحلاق - الملحن- يضع موسيقي لأغنية عنها.. »ميمي ياحبة عيني!« والعجلاتي والجزار، يرددون الأغنية بغير أن يشعروا أنهم يجرحونها! وهؤلاء، يزورون الرجل العجوز في ليلته الحمراء، يريدون أن يسهروا معه.. و»ميمي« مختبئة في »الحمام«! والرجل العجوز، إنسان! مهتز! وعندما يري الحلاق وبطانته »ميمي« أمامهم، يحترمون عواطف الرجل العجوز ومأساة ميمي وينصرفون ليعرض العجوز الزواج من المرأة التي كانت حديثا لذيذاً في فم الناس! مسرحية رائعة ومسرحية رديئة والمسرحيات الثلاث، ليست علي مستوي واحد من ناحية التأليف أو التمثيل أو اختيار الموضوع والحوار! الليلة البيضاء.. نقبلها - في مجموعها- تأليفاً، ونقول أنها جيدة التمثيل! أما الليلة السوداء فلا تستحق أن تظهر علي خشبة المسرح احتراماً للكاتب الذي نعتز به وهو نعمان عاشور! فكرة المسرحية- كما أظن- هي أن يسخر الكاتب من عيوب أخلاقية واجتماعية. تفضحها حادثة الموت! والمفروض أ لكن المسرحية - كما رأيناها - مأساة عصبية سطحية عنيفة! بالغ الممثلون في اللطم والندب، والصراخ. وكأنهم »ندابون« محترفون وليسوا ممثلين في المسرح القومي! ولا أدري كيف فسر المخرج هذه المسرحية! كل ما أعرفه -صادقاً- انها طاردتني حتي بعد أن صحوت من النوم في اليوم التالي! طاردتني وفي حلقي مرارة الندم، لأن مؤلفاً كبيراً كنعمان عاشور، لم يمزقها ويلقي بها في سلة الاوراق المهملة!
وتبقي الليلة الحمراء! إنها مسرحية مكتوبة ببراعة، وجيدة في بنائها -كمسرحية من فصل واحد- وممتازة في حوارها ولمحات شخصياتها! وهي »الحسنة« التي تمحو ذنوب وأهوال الليلة السوداء! وفيها ظهرت مقدرة عبدالرحيم الزرقاني وتوفيق الدقن وعبدالسلام محمد- الذي احزنني في تمثيل الليلة السوداء- وسناء جميل.. وهدوء المخرج كمال حسين.ولو كنت في موقف نعمان عاشور، لأ سقطت من حسابي هذه »الليلة السوداء«. وقدمت »الليلة الحمراء« وحدها! وقدمت معها الليلة البيضاء. إن نعمان كاتب له قيمته ووزنه! وليس عيباً أن ينتج مسرحية قصيرة واحدة في السنة! إن »العيب« المحزن أن يكتب مسرحية »سد خانة« فتصل في سقوطها إلي مستوي الليلة السوداء.