عقب ثورة 25 يناير بدأ الناس في استئصال الفساد لتفاجأ بأنه مستشر في جسد المجتمع الذي أصابه الوهن و التخلف، فأدركنا كم هو متغلغل في حياتنا،وبدأنا في البحث عن الدواء ، ليأتي بعد ذلك دور الأبحاث العلمية في سبر أغواره وتقديم روشتة للعلاج وتدشين منهج علمي للتخلص منه. وقد جاء كتاب (اقتصاديات الفساد في مصر) لعبد الخالق فاروق الخبير في الشئون الاقتصادية والاستراتيجية،الذي شارك في تقديمه الدكتور محمد رؤوف حامد و الدكتور نادر الفرجاني، مساهمة خصبة في تحليل هذه الظاهرة المنتشرة في كل معاملات البشر من خلال محور أساسي مؤداه: كيف جري إفساد مصر و المصريين؟ فأتت الإجابة في ستة فصول تحاول استقصاءه بطريقة منهجية. يطرح الفصل الأول عدداً من الأسئلة الضرورية أولها ماهية الفساد متناولاً قصة تأسيس"منظمة الشفافية الدولية" و كيفية نشأتها وأهدافها،و قد عرفت المنظمة في بداية عهدها الفساد بأنه"سوء استخدام السلطة الممنوحة من أجل تحقيق منفعة خاصة "ثم يستعرض المؤلف عقوبة الفساد في قانون العقوبات المصري و الفرنسي، لينتقل بعدها إلي أشكال الفساد وأنواعه متخذاً الحالة المصرية مثالاً وهي تكاد أن تكون نموذجية في دراسة كيفية تحول الفساد في مجتمع ما من حالات انحرافات فردية معزولة إلي ممارسة مجتمعية شاملة بالمعني الحقيقي للكلمة، فنري فساد الكبار المتنفذين علي قمة الهرم الاجتماعي و السياسي سواء في الفرع السياسي(الحكومة) أو التشريعي(مجلس الشعب)أو الأمني؛حيث شكلوا شبكات مصالح متناغما في توزيع الهدايا والغنائم.أما فساد الصغار فهو منحصر في الوساطة والمحسوبية والرشوة، ولم تقتصر علي الكبار وحدهم،بسبب الأجور المتدنية وارتفاع الأسعار وغياب الأجهزة الرقابية. أما الفصل التاني فيتناول الموارد المالية و كيف جري توظيفها فيقول:إن الاقتصاد المصري في الفترة الممتدة من عام1974إلي عام 2004 حصل علي موارد مالية واقتصادية هائلة لم تتحقق في تاريخة المعاصر كله؛ بلغت حوالي500مليار دولار،وهي حصيلة أربعة موارد أساسية كبري،هي تحويلات العاملين المصريين بالخارج،ورسوم المرور في قناة السويس،ودخل البترول المصري،ثم أخيراً الإيرادات الرسمية للنشاط السياحي،فأين وجهت هذه الأموال؟عندئذ يلفت الباحث انتباهنا إلي آلية الخصخصة وعمليات النهب المنظمة للأصول العامة ويقدم أحمد عز نموذجاً للاحتكارالذي يحتمي بالسلطة السياسية.وفي الفصل الثالث يتناول الفساد في قطاع الاتصالات شارحاُ ماهية سوق الاتصالات العالمية طبقاً لتقرير الاستثمار العالمي الذي أصدرته منظمة "الإنتكاد" التابعة للأمم المتحدة عام2002 ليجد أن عدد الشركات المتعددة الجنسيات قد بلغ في مطلع الألفية الجديدة حوالي 65 ألف شركة عالمية،وأن إدارة رجال القطاع الخاص للمال العام قد اتسمت بعدم الشفافية وإهدار المال العام. ويعرض الفصل الرابع الفساد في قطاع الصحافة والإعلام فيتساءل في مقدمته: هل الصحافة مهنة المتاعب أم مهنة الغنائم؟ مستعرضاً آليات إفساد الصحفيين مثل نظام التغطية الصحفية،أو ما يسمي المندوبين الدائمين وما ترتب علي ذلك من بروز ظواهر خطيرة في العمل الصحفي كالصراع الضاري و غير الأخلاقي بين الزملاء الصحفيين للاستئثار بمجالات معينة،وقطاعات بعينها كالسياحة،والسينما,والبنوك التي تعد مفيدة لهم معنوياً و ماديا،ً ثم تاتي الخطيئة الكبري متمثلة في المزج بين العمل التحريري والإعلاني. ويضيف الباحث في الفصل الخامس السياسات المالية التي تعزز الفساد وبخاصة إذا افتقرت إلي الشفافية و الوضوح،فقد مرت الموزانة العامة المصرية بمراحل عديدة ترتب عليها تغيير في أسس بنائها وهياكلها المالية و التنظيمية، وظلت بعد عام 1952تتسم بالغموض وهيمنة المنظور العسكري والأمني علي مخصصاتها المالية. أما الفصل الأخير فيقدم مشروعاً لتشكيل لجنة وطنية عليا لمقاومة الفساد و نهب مصر،و يقترح أن تضم اللجنة في تشكيلها شخصيتين من الشخصيات القضائية المشهود لها بالنزاهة,واثنين من كل من أعضاء مجلس الشعب المعروفين بالتصدي للفساد،ومن القانونيين والحقوقيين،ومن الأجهزة الرقابية،و من المحللين الاقتصاديين،و من رجال الجامعات المناوئين للفساد،ومن الأطباء الشرفاء ،ليشرح بعد ذلك آليات عمل اللجنة من خلال المنسق العام و مقررها. ويضم الكتاب عدداً من الملاحق كنماذج لحالات فساد صارخة و عمليات نهب منظم لثروات مصر.وصدرأخيراً عن مكتبة الشروق الدولية في 375صفحة. طارق أبو العلا