أبحث دوما عن مصدر الضوء، أتخيل بؤرة نور، خلف كوة معلقة في السقف، بين فراغات القضبان، أتخيل شمسا لم تضوِ بعد، بدأت تلك اللعبة منذ كنت في عربة الترحيلات، عدد من السجينات يحجبن الضوء عني، يحاولن النظر عبر الشبكة التي تفصلهن عن الخارج، يتعلقن بالشوارع عبر نظرات أخيرة ربما تؤنس سنوات قادمة في الزنازين، لم أكن أحتاج لذلك، فخيالي يخترق الأماكن بسهولة، يكفي أن أسمع صوت إحداهن وهي تقول أننا نعبر شارع رمسيس الآن حتي أتخيل كل الأماكن التي عبرتها سيرا علي الأقدام من قبل، لكني أرغب في أن تتزحزح أجسادهن قليلا لتعبر أشعة الشمس خلايا العين، وأنا أجتر كل ما قرأت من كتب أو شاهدت من أفلام عن السجن قبل أن أخطو عتباته ولا أغادره قبل عامين. أتخيل المشاهد الأسوأ من أفلام بعينها، وأستعيد مذكرات المعتقلين والمعتقلات، سجناء وسجينات، كما سجلوها في كتب وروايات، أختزن ما يعينني علي ما هو قادم، في قسم الشرطة تغيرت أفكاري تماما، عند باب الحجز، تحديدًا، حين قابلت "الحاجه". ترددت خطواتي عند باب الحجز، كانت جالسة علي الأرض، نظرت إلي باحتقار، لغة جسدها تحمل تهديدا صريحًا، حتي أعلن العسكري أني "بتاعت كتب وجرايد" لم تفهم الحاجه ما يعنيه لكنها استنتجت علي حد قولها، أني مثل "بتوع المظاهرات والسياسة مش استغفر الله العظيم"، تغيرت ملامح وجهها تماما، وتحولت لغة جسدها من حالة العداء إلي الترحيب، فردت شالها الأسود علي الأرض لأجلس عليه بجوارها، وبدأت في تلقيني قوانين السجن، وأهمها أن الناس درجات، فلا تستوي تاجرة المخدرات بالعاهرة، لذلك فلابد أن أشرح تهمتي لزملائي في السجن، كانت مهمة صعبة، أن أقنع البعض بأنني لم أقتل أو أسرق، وأن تهمتي هي الخيال، "تم ضبطي متلبسة بفكرة"! كانت الحاجه دون أن تدري تصوغ انطباعا أوليا بأن داخل السجن مثل خارجه، كأنها تقول: عليك أحيانا أن تقف علي أرض "طبقتك" كي تأمن شر من حولك. ضحكتي تبدد ظلام الزنزانة، يظن البعض أني مجنونة، أعتدت علي ذلك حتي في الخارج، يكرر أحدهم: الفنون جنون، لماذا لم يتم وضعي في مصحة للأمراض العقلية إذا! من سجنني يعرف أن الخيال هو اكتمال العقل بعينه، لكن زملاء الزنزانة لم يعرفوا أن ما أضحكني هو نصيحة الحاجه الأخيرة قبل أن أغادر الحجز: "خلي أهلك يسيبوا لك فلوس كتير في الكانتين". "الكانتين"! تصوره الحاجه باعتباره المكان السحري الذي يضمن لك قدرا من الحرية، تخيل أنك تملك أموالا كثيرة في البنوك خارج السجن تمكنك من شراء ما تريد، الكانتين يضمن لك المقايضة أيضًا، مع الآخرين، تشتري السجائر حتي وإن كنت لا تدخن فتكسب بها ود السجان والمسجونين، وتحصل علي سلع تغنيك عن طعام السجن البغيض، الاستغناء هو شكل من أشكال الحرية، والخروج من بين أنياب مطبخ السجن انتصار واستقلال عن قواعد لم تضعها بنفسك، أموال الكانتين تمكنك من اختيار طعامك وشرابك، وإيقاع حياتك، الكانتين يقلب الأفكار ويربطك بواقع الحياة في الخارج وإيقاعها، فالآخر الذي كنت أظنه خارج السجن قيدًا علي أفكاري صار الآن ضمانا للوجود علي قيد الحياة، هناك من يتضامن معي، وهناك من لا يكفيه سجني ويرجمني بحجارته الآن، في النهاية هناك من يعرف إلي أين أذهب، وأن هؤلاء "الآخرين" يمنحونني طمأنينة ما، خارج السجن الآخر هو الجحيم، هو سد بينك وبين حريتك، بقدر بعدك عن الجماعة التي يكونها "آخرون" بقدر اقترابك من "ذاتك"، الآن هؤلاء الآخرون هم ضمان حريتي الوحيد. من أسوار المدرسة إلي أسوار المدرسة، إلي كل الأسوار التي تؤطر حياتنا، جدران تفصلنا عن الخارج، حاجز بيننا وبين الحياة، خوفا منا أو علينا، ومدعاة لإعمال الخيال والتفكير في القفز والإنطلاق نحو الحرية، أفكر في تشابه المسميات، بين كانتين المدرسة وكانتين السجن، حين كنا صغارا ونمنح مصروفا يكفل لنا شراء ما نريده بينما من يحرم من المصروف لن يستطيع أن يحصل علي منتجه المفضل، كانت هبه، زميلتي في المدرسة، لا تملك المال ولا يعطونها في البيت "ساندوتشات" كافية، فتجلس في فترة الفسحة مراقبة زملائها في انتظار ما يجودون به، كنت أعطيها ساندوتشاتي وأجري إلي الكانتين لشراء الباسكويت بالشوكولاته، وأجلس بجوارها لأعبر عن مشاعرها في خطابات وهمية لوالدتها، تشكو فيها من زوجة ابيها، أقرؤها لها بعد كتابتها بالعربية الفصحي، فتتعجب كيف أستطيع التعبير عما تشعر به، تحتفظ بالخطابات ولا ترسلها لأحد، وهكذا وفاء، الفتاة الصغيرة التي تعمل في خدمة من يدفع في السجن، وتعمل بالسخرة أحيانا حتي لا تتعرض للمهانة، وفاء لا تملك نقودًا للكانتين، عرضت عليها لعبة الخطابات، كانت تحكي لي كل يوم عن شخص ما وأجلس وحدي أكتب لها خطابا له، وحين أقرؤه لها تدمع عيناها، وتحتفظ به، كنت أعلم أنها لن ترسله أبدًا. تحلو الألعاب في السجون، تمرر الوقت، وتحلو الحكايات، وأنا أذن كبيرة، تسمع وتضحك علي النكات التي لن تضحكني بالخارج، وتلعب بخيال الظل علي الحائط. لا تبدو الألعاب دوما مسلية، ولا الحكايات كذلك، أخبرتني "الحاجه" أن ممثلة نصف مشهورة بنت حماما مخصوصا للسجينات أثناء فترة حبسها، وأني لن أشعر بأي مشكلة، مادام أهلي قد وضعوا نقودا في "الكانتين"، باب الحرية السحري في نظرها، لم تحك الحاجه عن العين النصف مفتوحة والأعصاب المعلقة بأدني حركة، عن التحسب من الخطر الذي لن تستطيع دفعه عن نفسك، عن الاستقواء بدوائر من المسجلات خطر والمظلومات، وأنت تعلم أن هذا لن يؤمنك من خوف طوال الوقت، عن صعوبة الحصول علي مسكن لألم ليلي مفاجيء، وعن تحملك حتي الزيارة القادمة، عن تبدد الألم وأنت تسمع صرخات مريض آخر بمرض خطير ينتظر رحمة الموت أو رحمة السجان، لم تخبرني الحاجه أني لن استطيع استخدام الحمام "النظيف" دائما، وأني سأكون مهددا بأمراض جلدية مقززة مهما أتخذت من احتياطات، وأنني أخضع لقوانين المقايضة و"الكانتين" حتي في "الحمام"، لم تحكِ الحاجة عن الأيام المهدرة بلا معني، السؤال عن جدوي بقائي هنا وما الخطر الذي أمثله علي المجتمع؟! ولا تعنيها الحياة المفتقدة بالخارج، حياة لم أقدر قيمتها من قبل، العزلة المختارة لا تشبه ذلك السجن الإجباري، حين كنت أنعزل عن الحياة لفترة طويلة وأخرج لأول مرة أشعر أني أخطو فوق كوكب آخر، أفقد توازني، وأنظر لتفاصيل الحياة بدهشة طفل، الآن أنا أغادر سجني وقتما شئت وأعود إليه حين أشاء، كل ليلة أهدم حجرًا في السور، لن يشعر بي السجان، ولن أحاكم بتهمة محاولة الهروب من السجن، أكون موجودة صباحًا بين جدرانهم، جسدي فقط هو المسجون، لكن خيالي يخرق كل القضبان، يتسلق الأسوار، ويعيش حرًا، كما لم أعش من قبل. لم نكن أحرارا يوما، فليس حرا من لا يستطيع الاختيار، من يمنح خيارات محدودة ومحددة بمصالح الآخرين ليختار ما بينها، لم نتعد مرحلة الطفولة أبدا، فأنت لا تملك الحق في اختيار كتاب أو رفضه، ببساطة أن تقرأ صفحاته الأولي وتنحيه جانبًا إن لم يعجبك، فهناك من هو أكبر منك حتي وإن بلغت سن الرشد، هناك من يمكنه أن يسجن كاتبًا حتي لا يكتب مرة أخري ما يخدش حياءك، أو يخلخل أفكارك، أو يعارض ما ترتضيه السلطة، أين كانت هذه السلطة، كأنك لا تملك عقلا يتيح لك اختيار ما تقرأه، الكاتب يبذل مجهودًا ليكون قارئا حرا، يبحث عن كتبه ويجدها بمائة طريقة، وبعد أن أصبحت وسائل المعرفة متاحة لم يعد هناك ما يمكن أن يمنعه، الكاتب هو قاريء غير مدجن، وأنا بين جدرانهم لأن قارئا مدجن يرغب ألا تقع عيناه علي ما لا يعتاده، ولا يريد أن يوضع في محك الاختيار، قارئا متخليا بالفطرة عن حريته. سوف أطلب مجلات للأطفال في الزيارة القادمة، وسأقرأ منها لوفاء، وللمريضة التي تتألم كل ليلة، وحين أخرج من هذا السجن، سأكون قد حفظت أسماء كل السجانين، وسأهديهم كتبي القادمة، وسأرسل خطابات وفاء لأصحابها، وحين أقابل خيالي المنطلق علي باب سجنهم، سأتكيء عليه ما تبقي من عمري.