ضيوف المهرجان فى لقطة تذكارية في خلاء وادي الملوك وقف المواطن الأقصري يحدق في أثر العابرين وينظر في الساعة الكبيرة بمعصمه، كأنه يحاول أن يتدبر أمره أو يصغي إلي ريح تتحرك بين الأطلال وربما تكون قد مست أقاصي القلب عند نقطة الأمنيات بأن كل شيء ممكن وسوف يبدأ من جديد، يعيش الرجل في القرنة بالبر الغربي، مدينته الأثرية المواجهة للأقصر والمفتوحة علي التاريخ والأساطير ومعابد حتشبسوت وهابو والرمسيوم وسيتي ووادي الملوك والملكات وتمثالي ممنون وظلال الأجداد التي انطوت علي الأحفاد في برارٍ شاسعة يركض فيها النسيان. تساءل الرجل وهو يقضم الكلمات كمن ينفض الدهشة عن كاهله: هل يوجد مهرجان للسينما في الأقصر؟ وكان ذلك بعد افتتاح الدورة الرابعة من مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية بيومين، ولما جاءته الإجابة تؤكد وجود المهرجان وتفاصيله، سارع برده البريء: لم يخبرنا أحد ولم تصادفنا لافتة تدل عليه، بل أن أصدقائي من الأجانب الذين يعيشون معنا هنا أرادوا مشاهدة أفلام المهرجان ولم يعرفوا كيفية الحصول علي تذكرة أو دعوة. لم يقصد المواطن الأقصري إنكار وجود المهرجان أو التقليل من شأنه، لكن كل ما في الأمر أنه لم يدركه لضعف الدعاية والترويج له، حتي إنه لم يعرف أن صالات العرض مفتوحة للجميع مجاناً بدون تذكرة أو دعوة، علي الرغم من دعم محافظة الأقصر للمهرجان وتوفير الخدمات اللوجيستية له، وعلي الرغم من أن إدارة المهرجان نفسه استعانت بشباب الأقصر في تنظيمه؛ كما استخدمت المنتجات اليدوية (حقائب المهرجان مثلاً) في لفتة ذكية للعبور علي ملمح مهم للأقصر، لكن الرجل الذي أراد ضوءاً أكبر علي المهرجان ليؤدي دوره في التواصل مع شعب الأقصر شكلاً ومضموناً، كان يعبر عن مطلبه في أن يكون تأثير المهرجان أكثر عمقاً وأوسع من الهرولة بين صالات عرض تخلو من أهل البلد، وهو دور مهم لحاملي شعلة التنوير والعابرين علي جناح التغيير بعد سنوات عدة من الردة الثقافية والفنية التي اجتاحت البلاد وخلّفت ظواهر متعددة للخوف والفزع في وقت أدرك السينمائيون أنه لا يمكن العبور من ضفة إلي أخري بدون السينما كجسر ضروري للتواصل والحوار والتنوير، ولعل هذا ما عبر عنه المخرج د. محمد كامل القليوبي، رئيس مؤسسة نون للسينما والفنون المنظمة للمهرجان، حين كتب في كلمته التي تضمنها كتالوج المهرجان وشرح فيها أسباب أن يصبح مهرجان الأقصر مهرجاناً للسينما العربية والأوروبية، فقال:"فالارهاب الذي أصبح علي نحو ما مرتبطاً بالعالم الاسلامي الذي تشكل البلاد العربية جزءاً أساسياً منه، والمدعو للحوار مع عالم تنتابه الحساسية تجاه كل ما هو اسلامي فيما يعرف بظاهرة الاسلاموفوبيا التي تجتاح العالم الغربي في الوقت الراهن، يدعونا أكثر من أي وقت مضي للحوار عبر قنوات متعددة، أتصور أن السينما كفن وفكر ورؤية للعالم، وكوسيط نكتشف فيه أنفسنا وبعضنا ونتعارف جميعاً من خلالها، هي إحدي هذه القنوات إن لم تكن أهمها". ويبدو أنه علي هذا الأساس قرر المهرجان أن يكسر قواعده، حسب توصيف الناقدة ماجدة موريس رئيس المهرجان، باختياره لفيلم غير أوروبي للافتتاح وهو الفيلم الفلسطيني (3000 ليلة) الذي استهلت به الدورة الرابعة التي أهديت رئاستها الشرفية للفنانة لبني عبدالعزيز واحتفت بالسينما الإيطالية كضيف شرف، بينما تراوحت عروض المهرجان في مستواها الفني لا يلامسها سوي الكثير من الجدل والأسئلة التي تحاول ألا تخطيء الطريق في العثور علي إجابة عن مصير سينما تتشكل في سماوات مختلفة، وعما تحمله في مستقبل الأيام؛ وكل ذلك لا يقصيك أو يدنيك من حال تجد نفسك متورطاً فيه شئت أم أبيت، فحين تمنحك الفرصة وقتاً للتأمل وتحدق في شوارع الأقصر، تجد الارتجال هو مفتاح الحياة ونسقها؛ فلا خطط ولا مسار يتلمس وضوحه من خيوط الشمس أو يبحث عن مصادر أخري للحماس، المدينة الجميلة محاصرة بالارتجال؛ تصحو في الصباح وتطأ قدمك الأرض وأنت تحاول أن تكسر كل ظلال الخوف وتتبع أملاً يختبيء بداخلك، لكنك تستسلم للارتجال فتسلم نفسك للمقاهي وكورنيش النيل ومعابد خلت تقريباً من سياحة الأجانب باستثناء بعض الوفود الصينية، وفقط عدة أفراد يتوهون في مجموعات من المصريين الذين جاءوا لتمضية أيام من إجازة نصف العام، والأمر هنا لا يمكن اختصاره في المسافة بين انحسار السياحة والأزمة الاقتصادية هكذا كعنوان عام وواسع يرميه الجميع بوحشية في الفضاء ليصارع وحده المأساة، وإنما هو يتعلق ب"بني آدميين" صاروا يحصون أيامهم ولياليهم في انتظار المنطقة الصناعية التي تهزم غول البطالة، ودار الأوبرا التي ترد روح الفن، والمرسم الدولي الذي يعيد ترتيب التفاصيل في مدينة الجمال والرسم والنقوش، وحتي يحدث ذلك فالكل يدور في دوامة الارتجال؛ وهو ذاته الارتجال الذي أصابني كالبرق وأنا أتابع هذه الدورة الرابعة لمهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية و حاولت كسره وأنا أنتقي مشاهداتي حسب قراءاتي السابقة عن بعض الأفلام أو حسب رغبتي في التعرف علي التجارب الجديدة فإذا بي أصبح عالقة في منعطف الأمنيات بسينما حلوة أفتقدها، وهو الإحساس الذي تملكني منذ شاهدت فيلم الافتتاح "3000 ليلة" للمخرجة الفلسطينية »مي المصري« التي تقدم من خلاله أولي تجاربها الروائية الطويلة بعد مشوار حافل بالأفلام الوثائقية، عهدت مي المصري تنحو بأفلامها لأنسنة الموضوع الفلسطيني وتحريره من أن يكون الإنسان االفلسطيني بطلاً بالضرورة، وهو ما تمر عليه هنا في فيلمها من خلال طرحها قصة "ليال" معتقلة فلسطينية يزج بها في سجن نابلس (1980) بين سجينات فلسطينيات واسرائيليات وما ينتج عنه ردود فعل عنيف وضغينة إضافة إلي التباين الملحوظ والطبيعي في الشخصيات، وقد تكون مي تميزت في الجزء التسجيلي بالفيلم، لكن هناك طول الوقت علامة استفهام رسمتها تفاصيل مرتبكة في السرد وكذا زوبعة التكرار والتنميط، كأنها تعيد تدوير مواد في أفلامها السابقة أو موضوعات متعلقة بدراما السجون أكثر من خصوصية القصة هنا لأم فلسطينية تنجب طفلها في سجن الاحتلال، فيما جاء الفيلم الروائي القصير "السلام عليك يا مريم" (حصل علي شهادة تقدير خاصة) للمخرج الفلسطيني باسل خليل والذي رُشح لمسابقة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي الذي قدم في 15 دقيقة موضوعاً لا يبعث علي شيء سوي الاغتراب عبر قصة بسيطة مليئة بالرمزية بداية من حادث سيارة لمستوطنين يهود يسقط علي إثره تمثال السيدة مريم أمام دير فيه مجموعة من الراهبات نذرن الصمت، فتنقطع وسائل التواصل بين الطرفين بداية، ثم تخرج الراهبات عن صمتهن ويساعدن اليهود ويمنحهن سيارة قديمة ينطلق فيها اليهود إلي الفضاء الرحب بينما تعود الراهبات إلي عزلتهن داخل الدير ويقع تمثال السيدة مريم ويتحطم في إشارة إلي أن الجرح لا يخمد ورفض حاسم لفكرة التطبيع. وبما أن هذه النوعية من الجراح لا تشفي وأن الأقصر كغيرها تعاني من خطر العنف والإرهاب، وإذا كان المهرجان كما قال د. القليوبي فرصة للحوار فإن الفيلم اللبناني القصير "الصراط المستقيم" للمخرج فؤاد عليوان، هو شهادة فنية في مواجهة المتطرفين وذلك من خلال رحلة رجل يسمي زكريا وهو لبناني مسلم يفتخر بدفاعه عن بلاده من خطر المتطرفين والارهابيين، علي حين قدم الفيلم المغربي "دوار السوليما" من إخراج أسماء المدير في 25 دقيقة لوحة حميمية لمصير قاعة سينمائية قديمة، بينما المغربي الطويل "مسافة ميل بحذائي" من إخراج سعيد خلاف (فاز بالجائزة الذهبية للمهرجان) فكان تنويعة أخري علي العنف والظلم والقهر من خلال التصاعد الدرامي للشاب سعيد في رحلته الشائكة من الطفولة إلي الشباب في مجتمع لا يرحم ولا يمنحه السعادة، وهي السعادة التي يبحث عنها بطلا فيلم "بانات الرحلة" من إخراج أدريانو فاليريو، إنتاج إيطالي وروماني وبلغاري وحاز علي الجائزة الفضية للمهرجان، بطلا الفيلم في مواجهة ارتباك المجتمع؛ كما أبطال الفيلم التونسي "علي حلة عيني" للمخرجة ليلي بوزيد في مواجهة الخوف، وإن كان هذا الفيلم الذي حاز علي برونزية المهرجان (جائزة العمل الأول) يتناول الفترة قبل الثورة التونسية ببضعة شهور،وبما أن المهرجان تباينت أفلامه شكلاً وموضوعاً؛ وإن كانت الأفلام القصيرة والوثائقية هي الأفضل حالاً، فطالعنا اللبناني الحاصل علي جائزة أحسن فيلم روائي قصير في المسابقة العربية "ومع روحك" إخراج كريم رحباني بصورة خاصة من دير لبنان عن الأب جريس الذي يجد نفسه متورطاً في حادث مأساوي، بينما الفيلم التونسي"غصرة" إخراج جمال نجار والحائز علي الجائزة الذهبية في مسابقة الأفلام العربية والأوروبية القصيرة يحكي عن سائق تاكسي يواجه صعوبة من أجل قضاء حاجته فيواجه أنماطاً غريبة من الناس والمواقف، في حين لعب الفيلم الإيطالي" التكشيرة" لإيمانويل بالمرا والفائز بالجائزة الفضية في نفس المسابقة علي التغير الذي أصاب مغنيا قديما من نابولي بعد تعرضه لحادث شوه وجهه وجعله قعيد كرسي متحرك. وبصرف النظر عن التفاوت الملحوظ بين الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة والوثائقية، فإن المهرجان يظل كمثيله من مهرجانات أخري يعاني من التعامل معه ومع السينما عموماً كمجرد ترف، فلا الدعم المالي يكفي ولا الترويج لحضوره موجوداً من الأساس حتي إن شوارع الأقصر خلت من لافتات دعاية كما أشار المواطن الأقصري في البداية وكما خلت نفس الشوارع من تقاسيم الحماس في عبور قريب.