وحين تمنحك الفرصة وقتاً للتأمل وتحدق فى شوارع الأقصر، تجد الارتجال هو مفتاح الحياة ونسقها؛ فلا خطط ولا مسار يتلمس وضوحه من خيوط الشمس أو يبحث عن مصادر أخرى للحماس، المدينة الجميلة محاصرة بالارتجال؛ تصحو فى الصباح وتطأ قدمك الأرض وأنت تحاول أن تكسر كل ظلال الخوف وتتبع أملاً يختبئ بداخلك، لكنك تستسلم للارتجال فتسلم نفسك للمقاهى وكورنيش النيل ومعابد خلت تقريباً من سياحة الأجانب، فقط عدة أفراد يتوهون فى مجموعات من المصريين الذين جاءوا لتمضية أيام من إجازة نصف العام، والأمر هنا لا يمكن اختصاره فى المسافة بين انحسار السياحة والأزمة الاقتصادية هكذا كعنوان عام وواسع يرميه الجميع بوحشية فى الفضاء ليصارع وحده المأساة، وإنما هو يتعلق ب«بنى آدمين» صاروا يحصون أيامهم ولياليهم فى انتظار المنطقة الصناعية التى تهزم غول البطالة، ودار الأوبرا التى ترد روح الفن، والمرسم الدولى الذى يعيد ترتيب التفاصيل فى مدينة الجمال والرسم والنقوش، وحتى يحدث ذلك فالكل يدور فى دوامة الارتجال؛ وهو ذاته الارتجال الذى أصابنى كالبرق وأنا أتابع الدورة الرابعة لمهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية وحاولت كسره وأنا أنتقى مشاهداتى حسب قراءتى السابقة عن بعض الأفلام أو حسب رغبتى فى التعرف على تجارب جديدة، فإذا بى أصبح عالقة فى منعطف الأمنيات بسينما حلوة أفتقدها، وهو الإحساس الذى تملكنى منذ شاهدت فيلم الافتتاح «3000 ليلة» للمخرجة الفلسطينية مى المصرى الذى تقدم من خلاله أولى تجاربها الروائية الطويلة بعد مشوار حافل بالأفلام الوثائقية، عهدت مى المصرى تنحو بأفلامها لأنسنة الموضوع الفلسطينى وتحريره من أن يكون الإنسان الفلسطينى بطلاً بالضرورة، وهو ما تمر عليه هنا فى فيلمها من خلال طرحها قصة «ليال» معتقلة فلسطينية يزج بها فى سجن نابلس (1980) بين سجينات فلسطينيات وإسرائيليات وما ينتج عنه ردود فعل عنيفة وضغينة إضافة إلى التباين الملحوظ والطبيعى فى الشخصيات، وقد تكون «مى» تميزت فى الجزء التسجيلى بالفيلم، لكن هناك طول الوقت علامة استفهام رسمتها تفاصيل مرتبكة فى السرد وكذا زوبعة التكرار والتنميط، كأنها تعيد تدوير مواد فى أفلامها السابقة أو موضوعات متعلقة بدراما السجون، فيما جاء فيلم «السلام عليك يا مريم» للمخرج الفلسطينى باسل خليل الذى رُشح لمسابقة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبى الذى قدم فى 15 دقيقة موضوعاً لا يبعث على شىء سوى الاغتراب عبر قصة بسيطة مليئة بالرمزية بداية من حادث سيارة لمستوطنين يهود يسقط على أثره تمثال السيدة مريم أمام دير فيه مجموعة من الراهبات نذرن الصمت، فتنقطع وسائل التواصل بين الطرفين بداية، ثم تخرج الراهبات عن صمتهن ويساعدن اليهود ويمنحهن سيارة قديمة ينطلق فيها اليهود إلى الفضاء الرحب، بينما تعود الراهبات إلى عزلتهن داخل الدير ويقع تمثال السيدة مريم ويتحطم فى إشارة إلى أن الجرح لا يخمد ورفض حاسم لفكرة التطبيع. وبما أن هذه النوعية من الجراح لا تشفى وأن الأقصر كغيرها تعانى من خطر العنف والإرهاب، فإن هذا ما قاله الفيلم اللبنانى القصير «الصراط المستقيم» للمخرج فؤاد عليوان، عبر رحلة رجل يسمى «زكريا»، وهو لبنانى مسلم يفتخر بدفاعه عن بلاده من خطر المتطرفين والإرهابيين، وبما أن المهرجان تباينت أفلامه شكلاً وموضوعاً؛ وإن كانت الأفلام القصيرة والوثائقية هى الأفضل حالاً، لكن يظل المهرجان كمثيله من مهرجانات أخرى يعانى من التعامل معه ومع السينما عموماً كمجرد ترف، فلا الدعم المالى يكفى ولا الترويج لحضوره موجود من الأساس حتى إن شوارع الأقصر خلت من لافتات دعاية كما خلت من تقاسيم الأمل.