هنا تشكل وعى محفوظ وكانت البدايات الأولى للموسيقار محمد عبد الوهاب للوهلة الأولي قد لا تلتفت إليها. وإن لمحتها من وراء البوابة الحديدية، التي أحكمت عزلتها، لن يخطر علي بالك أنك أمام أقدم سينما صامتة في القاهرة. فلا توجد لوحة تعلن هويتها، ولا أحد من السكان أو المارة المترددين عليها يعرف شيئاً عنها . كما أن هيئتها من الخارج، توحي بأنها مسرح، حتي هذا الأمر قد يثير شكوكك، لأن الفندق المواجه لها يبتعد عنها بمسافة ثلاثة أمتار تقريباً. هذا الفندق كانت ملحقة به في بدايات القرن العشرين، ولا يمكن تاريخياً فصلهما عن بعض. قبل أن أدخل إلي ساحة السينما، التي تقع في نهاية شارع خان جعفر، المتفرع من شارع المشهد الحسيني، اقتربت من المحال الموجودة هناك، لا لأتحقق من معرفتهم بالسينما من عدمه، لكن لأرصد الوضع الذي صار عليه الخان، والذي أثر بالطبع علي كل شيء حوله. فكان قديماً سوقا تجاريا متنوعا، تُعقد فيه الصفقات بين كبار التجار. الآن تحول إلي سوق للأحجار الكريمة. به أشهر الوكالات، وهي وكالة الحرمين، التي تدهور حالها، إذ أصبحت تُعرف بين الأهالي بوكالة الشطة، بعد أن استقر بها منذ سنوات عدد من تجار العطارة. لا يعرف كثير من أصحاب المحال سوي اسم السينما؛ الكلوب. صاحب مطعم الفول الملاصق لها قال إن الوحيد المُلم بالمعلومات هو غريب مرجان، أحد مُلاك فندق الكلوب. ذهبت له مباشرة، ولم أستطع أن أحدد هل هو واقف أمام الفندق، أم السينما؟ لكنه أوضح شيئا كان ملتبساً علي: "كلاهما كان شيئاً واحداً، حيث كانت السينما - الموجودة في الدور الأرضي - خدمة تابعة للفندق، الذي تغير اسمه إلي (الصفا والمروة)، وقد شهد هذا المكان بدايات الفن الأولي، حيث عرضت فيه الأفلام الصامتة، وأخرج مسرحه عدد من الفنانين". مزيد من الحيرة، بين كونها مُصنفة لدي الدولة إلي سينما أم مسرح. لجأت إلي عدد من النقاد السينمائيين، من بينهم طارق الشناوي، لكنه لم يكن لديه معلومات موثقة عنها، بالتالي لم يحسم الأمر. الدكتور سيد إسماعيل، رئيس المركز القومي للمسرح، قال إنها سينما، وليست مسرحا بالمعني المفهوم، ومن الممكن أن نطلق عليها ساحة فنية شهدت استعراضات شعبية، أو ما يسمي بفن الشارع، مضيفاً: "أذكر حين كنت طفلاً، اصطحبني أبي إلي حي الحسين، وكلما دخلنا زاوية، أو حارة، نجد العازفين، والمغنين، أشهرهم كان المغني محمد طه". ربما كان هذا في إحدي سنوات النصف الثاني من القرن العشرين، لكن البدايات الأولي كانت مختلفة. يحكي عم غريب أنه حين تولي إدارة الفندق عام 1994 اطلع علي الكثير من الحكايات، التي تداولها من سبقوه، منها أن السينما كانت تحت إدارة اليهود حين كانوا يسكنون مصر، ثم انتقلت بعد ذلك إلي ملكية مكتبة ومطبعة فيصل عيسي الحلبي حتي وقتنا هذا، ولم يحدث أن الدولة ملكتها يوماً، فهي لا تصنف كأثر، بل كتراث معماري. في هذا الشأن، ذكر كتاب (اليهود والسينما في مصر والعالم العربي) للناقد السينمائي أحمد رأفت بهجت أن المصريين كانت لهم محاولات في مجال عرض السينما علي الجمهور، كانت أبرزها تجربة عبد الرحمن صالحين في إدارة سينما فندق الكلوب عام 1910، لكن الاحتكار شبه الكامل، الذي مارسه الأجانب بصفة عامة، واليهود بصفة خاصة، علي دور العرض السينمائية، جعلت المصريين يشعرون بالغربة، لأن محاولاتهم كانت غير فاعلة، وبلا جدوي، فالخبرة في إدارة دور العرض غير متاحة، ومقصورة في جوانبها الفنية علي الأجانب. ولم يسرد الكاتب أي معلومة أخري عن تاريخ الكلوب، أو عن الفنانين الذين ترددوا عليها، إذ لمسنا فقرا كبيرا في تناول كتب السينما لها، رغم أنها من أهم السينمات التي تحتاج إلي توثيق. أثناء حديثنا مع عم غريب، قال إن هناك إهمالا متعمدا للكلوب، فإن كانت الدولة تدرك قيمتها لما تحولت إلي مخزن لمكتبة الحلبي. متابعا بشيء من الحسرة: "تخيلي أن السياح حين يأتون إلي خان الخليلي، يمرون علينا، ويقفون أمام السينما والمسرح مبهورين بالمكان، لكن المصريين لا يعيروها اهتماماً، اللهم إلا الكاتب الكبير جمال الغيطاني، الذي يزورنا كلما وطأت قدماه حي الحسين". يكاد يكون الغيطاني الكاتب الوحيد المعاصر الذي حاول أن يؤرخ للكلوب، كونه مهتما في الأساس بالعمارة، وبالقاهرة القديمة. فكتب في مقال بجريدة الأخبار يوم 18 مارس الماضي، تحت عنوان (الثقافة الغائبة) أن الكلوب تعد أول دار سينما يتم افتتاحها في القاهرة عام 1910، وكانت صالة تحت مستوي الأرض بالفندق، مشيراً إلي أن الدكتور حسين فوزي في كتابه (سندباد عصري) ذكر أنه شاهد الأفلام في هذا المكان خلال طفولته، وأن الأديب نجيب محفوظ أخبره أن هذه السينما فتحت له آفاقا من الخيال، حيث شاهد فيها الأفلام الصامتة، وإلي جوار الشاشة بيانو يعزف عليه أحدهم كموسيقي مصاحبة للعرض، ويقوم آخر بالترجمة المباشرة. شغف نجيب محفوظ الأول الذي تشكل هناك، كان في سن مبكرة له، إذ يحكي للكاتب الراحل رجاء النقاش ف كتاب (نجيب محفوظ: صفحات من مذاكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته) علاقته الخاصة بالسينما قائلاً: "كنت لا أزال في الخامسة من عمري عندما دخلت الكلوب. ومنذ اللحظة الأولي عشقت السينما وواظبت علي الذهاب إليها مع الشغالة، حيث كانت أمي ترسلها معي، وتظل ملازمة لي حتي انتهاء العرض، ثم تصحبني إلي المنزل. كانت كلمة (النهاية) علي آخر الشريط، من أشقي اللحظات علي نفسي. فقد كنت أتمني أن أمضي اليوم كله داخل دار العرض، وتمنيت لو أنني أسكن في دار عرض سينمائي فلا أخرج منها أبداً. فكانت متعة مشاهدة فيلم صامت لا تعادلها عندي أي متعة أخري". وكانت أفلام البريطاني الشهير شارلي شابلن أكثر ما شاهدها في الكلوب. "أعرف أن نجيب محفوظ كان يتردد علي الكلوب". يقول عم غريب، الذي كشف عن سر تعلقه بالمكان، رغم زبائنه الذين اختفوا مع السنوات، وتهالك فندقه، أنه بعيداً عن روحانيات مسجد الحسين، فشعوره بأنه موجوداً في مكان له تاريخ، يمنحه إحساساً بالفخر، إذ يجلس علي كرسيه الموجود أمام الفندق، بجوار قطتين، وبصبحة عامل، الذي سحب خرطوم طويل إلي المسرح، كي يمطره بالماء ليخفف من موجة الحر. للمرة الأخيرة، يشير عم غريب إلي المسرح، قائلاً: "تحدثني الأماكن، والحوائط، أن عظماء كثيرون لا أعرفهم جاءوا إلي هنا". لا يخيب التاريخ حدسه، فكانت البدايات الأولي للموسيقار محمد عبد الوهاب علي مسرح الكلوب، والذي اكتشفه الممثل المسرحي فؤاد الجزايرلي عام 1917، وغني معه باسم مستعار وهو محمد البغداد. وفق ما جاء في كتاب (الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر) للبروفيسور والتر أرمبرست، ترجمة محمد الشرقاوي، والذي ذكر فيه أن عائلة عبد الوهاب اكتشفت أمر غنائه سريعاً، حين حضر أخوه الأكبر حسن للمسرح، فأخذه للبيت، واستجاب عبد الوهاب لمحاولات التأديب. وفي حوار أعده الصحفي كامل الشناوي مع موسيقار الأجيال في مجلة آخر ساعة (مارس 1965)، تذكر عبد الوهاب أيامه مع الكلوب: " كنت أحفظ الأغاني التي أسمعها، وأرددها في الحارة مع أصحابي، وسمعني الأسطي عبده الحلو الحلاق وأنا أدندن. وقال لي إن صوتي جميل، وأنه سيقدمني لأحد زبائنه وهو الأستاذ فوزي الجزايرلي، وكان صاحب فرقة مسرحية تمثل علي مسرح الكلوب.. ووفي الحلاق بوعده.. وتم لقائي بالجزايرلي، واشتغلت مطربا بين فصول الروايات بمبلغ قدره خمسة قروش في الليلة.. وكان ثمن تذكرة الدخول في مسرح الجزايرلي خمسة قروش للبريمو، وقرشين للترسو!". لم يكن وحده عبد الوهاب الذي يتردد علي الكلوب ليشاهد مسرحيات الجزايرلي، فقد عشق الفنان عبد الفتاح القصري الفن هناك، لكنه لم يكن يذهب إلي المسرح من وراء أهله، بل بموافقة والده الجواهرجي، الذي اتفق معه أن يكون ذلك في أوقات الفراغ، بعد أن ينهيه يوم دراسته حيث كان يتعلم في مدارس الفرير الفرنسية، كان حينها قد تجاوز العاشرة من عمره، ولمس الجزايرلي تعليقاته الساخرة التي مازال يتناقلها عشاقه مثل " يا صفايح السمنة السايحة يا براميل القشطة النايحة"، وعمل مع إحدي فرق الهواة في إلقاء المونولوجات التي تنتقد الأوضاع، ثم عمل مع فرقة اللبناني جورج أبيض. "يعتبر جورج أبيض من نجوم المسرح القدامي، إذ عاد لمصر عام 1910، بعد أن أرسله الخديو عباس لدراسة الفن في باريس، ومعه فرقة فرنسية تحمل اسمه، وبدأ بعرض مسرحيات بالفرنسية، لذلك من المستبعد أن يكون قدم أي عمل علي مسرح الكلوب" يوضح المؤرخ الغنائي وجيه ندي، الذي فسر تسمية المسرح بهذا الاسم: "لم تكن الكهرباء موجودة في بدايات القرن العشرين، ما دفع أصحاب المسرح لإنارته بالكلوبات، ومثل عليه عدد من الفنانين، الذين اندثرت أسمائهم، ولم ينالوا أي شهرة، لأن الصحافة كانت محدودة حينها، ولم تكتب عنهم. وحين تطور الفن، وظهرت الأفلام الناطقة والأوبريتات الغنائية في منتصف العشرينيات، توقف مسرح وسينما الكلوب.. ليصمت إلي الأبد".