الأطباء تبحث مع منظمة الصحة العالمية مشاركة القطاع الخاص في التأمين الصحي    محافظ الإسكندرية يطلق مبادرة توظيفك علينا لتشغيل 1000 شاب وفتاة    حدث ليلا.. تل أبيب تشتعل واعتقالات بالجامعات الأمريكية وإصابة بن غفير    مصرع 76 شخصا وتشريد 17 ألف آخرين بسبب الفيضانات في كينيا    صحفي إنجليزي يكشف كواليس وأسباب أزمة مشادة محمد صلاح مع كلوب    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    طارق السيد: الزمالك سيتأهل إلى نهائي الكونفدرالية    موعد مباراة توتنهام وآرسنال اليوم في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    حالة الطقس اليوم الأحد على القاهرة والمحافظات    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمان لبناء العلاقات مع روسيا    أسعار الأسماك واللحوم والدواجن والخضروات.. اليوم 28 أبريل    التصريح بدفن جثة شاب صدمه قطار أثناء عبوره المزلقان بقليوب    تتبع المنهج البريطاني.. ماذا قال وزير التعليم عن المدرسة الدولية؟    زلزال بقوة 6.1 درجة يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    الفرح تحول إلى جنازة، لحظة انتشال سيارة زفاف عروسين بعد سقوطها بترعة دندرة (صور)    14 مليار دولار في طريقها إلى مصر بسبب رأس الحكمة    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    غدا.. محاكمة عاطل متهم بإنهاء حياة عامل في الحوامدية    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    السفير الروسي: انضمام مصر للبريكس مهم جدا للمنظمة    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل عن 65 عاما    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد 28 إبريل 2024 بالصاغة    حسام البدري: أنا أفضل من كولر وموسيماني.. ولم أحصل على فرصتي مع منتخب مصر    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    بعد جريمة طفل شبرا، بيان عاجل من الأزهر عن جرائم "الدارك ويب" وكيفية حماية النشء    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    وفاة الفنان العراقي عامر جهاد    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    ملف يلا كورة.. أزمة صلاح وكلوب.. رسالة محمد عبدالمنعم.. واستبعاد شيكابالا    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحلي الصدف تأتي بالصدف
نشر في الأخبار يوم 31 - 10 - 2018

لأنني كنت الوحيد في الوفد الذي يتحدث الإنجليزية بطلاقة علي الطريقة الهندية فقد أصبحت المتحدث الرسمي باسم العراق وليس باسم الوفد!
لعبت الصدفة أدواراً وحكايات في حياة كل إنسان. بل إن اختراعات مهمة كثيرة تمت بالصُدفة من بينها: المايكروويف وأشعة إكس وجهاز تنظيم ضربات القلب وعقار الهلوسة والبنسلين والفياجرا والأنسولين والديناميت وزجاج السيارات الآمن وإطارات السيارات (التيوبليس) وعلبة الكبريت وشرائح البطاطس والبلاستيك. وبالصُدفة اكتشف الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب إن السياسيين مثل رواد أندية القمار التي يملكها يمكن أن يربحوا ويمكن أن يخسروا.
يقول العرب: »رُبّ صُدفةٍ خيرٌ من ألفِ ميعاد»‬.
في عام 1956 غني عبد الحليم حافظ لفاتن حمامة في فيلم »‬موعد غرام» أغنية »‬صُدفة» من كلمات مأمون الشناوي وألحان كمال الطويل: »‬كان يوم حبك أجمل صُدفة.. لما قابلتك مرة صُدفة/ ياللي جمالك أجمل صُدفة.. كان يوم حبك صُدفة».
قادسية كنعان وصفي
وغنت المطربة العراقية المعتزلة أنوار عبد الوهاب من كلمات الشاعر العراقي الكبير سامي مهدي: »‬صُدفة.. يا هوايا التقينا صُدفة.. فلهونا معاً.. وزهونا معاً.. وكتبنا معاً قصة لكلينا». ووقع الاختيار بالصُدفة علي الممثل والملحن كنعان وصفي لتلحين الأغنية.
وأفتح قوساً هنا لأقول إن ملحن هذه الأغنية كنعان وصفي الممثل العراقي الكردي المعروف في الأفلام المصرية القديمة الذي أقام في القاهرة من عام 1952 إلي عام 1972 حيث عاد إلي بغداد حتي وفاته في عام 2000. وقد مثل في أفلام كثيرة شخصية الشرير مع فريد شوقي وشكري سرحان ويحيي شاهين وعبد الله غيث وغيرهم. وكان من أصدقائي الطيبين. وحدث أن تم استدعاؤه بالصُدفة للانضمام إلي الجيش الشعبي خلال الحرب العراقية - الإيرانية علي الرغم من إنه غير بعثي. وتكرر الاستدعاء أكثر من مرة فسألني رحمه الله ساخراً: »‬هل هي قادسية صدام أم قادسية كنعان وصفي».
حضرت المطربة وغابت الوزيرة
وفي بداية عملي الوظيفي في أوائل الستينيات من القرن الماضي في أمانة العاصمة بغداد، تم إبلاغنا بأن وزيرة البلديات العراقية الراحلة نزيهة الدليمي ستزور الامانة باعتبارها إحدي الدوائر التابعة للوزارة. كانت الدنيا صيفاً ولم نكن ننعم برفاهية أجهزة التكييف فقام الفراشون برش أرضيات الغرف بالماء لتبريد الجو، وتولي »‬الملاحظ» بنفسه قتل جميع الذباب، وساعده في هذه المهمة »‬معاونو الملاحظ» الذين طاردوا القطط السائبة التي كانت تصول وتجول بين المكاتب تلتقط بقايا الطعام من »‬سندويتشات» الموظفين.
وفجأة صرخ أحدهم: »‬جَت الوزيرة»! وكانت المرحومة نزيهة الدليمي وزيرة مثقفة ومحترمة لها شنّة ورنّة باعتبارها عضوة قيادية في الحزب الشيوعي العراقي آنذاك، وهو ما دفع أحد زملائي في الغرفة التي تضم سبعة موظفين، وكان شيوعي الهوي ومن المقاومة الشعبية، إلي الصراخ فور دخول الوزيرة: »‬قيام»! وقمنا من كراسينا مثل تلاميذ المدارس حين دخلت »‬الوزيرة» وخلفها خمسة من مرافقيها. وقالت: صباح الخير. إلا أننا لم نرد من هول المفاجأة كما كان يقول الفنان يوسف وهبي. فلم تكن السيدة الداخلة وزيرة البلديات وإنما المطربة الشعبية العراقية الراحلة زهور حسين صاحبة أجمل الاغاني في تلك السنوات! وقد تصادف أن جاءت المطربة في نفس التوقيت المفترض للوزيرة لإنهاء بعض الأوراق الخاصة بملهي كانت تمتلكه في بغداد! دخلت علينا زهور حسين بعباءتها البغدادية السوداء وخلفها سائقها ومحاسب الملهي وثلاثة من حراسها، بينما لم تقم الوزيرة بالزيارة أساساً! وكنتُ سعيداً بهذه الصُدفة لأني من محبي أغاني هذه المطربة الشهيرة ببحة صوتها وإجادتها المقامات العراقية والغناء بالعربية والفارسية.
مظاهرة في مطار عسكري ليبي
وخلال الثورة الليبية الأخيرة تجمعت حشود جماهيرية وعسكرية في أحد المطارات العسكرية في طرابلس لاستقبال طيارين ليبيين رفضا قصف الثوار في بداية الثورة وهربا بطائرتيهما إلي مالطا. وقبل ان تهبط الطائرة التي تقل الطيارين العائدين لبلدهما حطّت في المطار طائرة صغيرة تحمل علامة الأمم المتحدة، وظن المستقبلون أنها تحمل الطيارين البطلين العائدين، فتجمعوا عند مدخل الطائرة، وما إن بدأ ركابها بالنزول حتي انطلقت صيحات »‬الله أكبر» و»يسقط القذافي»، ثم تصاعدت الهتافات حين نزل من الطائرة راكب أسمر البشرة فبدأ المستقبلون بتقبيله وتحيته وحمله علي الأكتاف. وعندما سأله مراسل التلفزيون الليبي عن شعوره إزاء عدم امتثاله لأوامر القذافي بقصف الثوار في مدينة بنغازي ردّ بالقول: »‬لا يمكن أن أصف هذا الشعور لانني لست من قام بهذا العمل، فأنا ممثل وزارة الخارجية الليبية المرافق لوفد برلماني أوروبي نزل من الطائرة قبل لحظات»!
أيها الرفاق الأعزاء
وأتيح لي قبل أكثر من 35 عاماً أن أزور جمهورية تشيكوسلوفاكيا بدعوة لنقابة الصحفيين العراقيين من منظمة الصحافة العالمية. وفي البرنامج المخصص للزيارة كانت هناك فقرة تشير إلي رحلة نقوم بها إلي أحد المصانع الضخمة القريبة من العاصمة براج. وحين سألت المرافق عن إنتاج المصنع أجابني بلغة إنجليزية غير مفهومة وصلت إلي ذهني بالصُدفة كلمة »‬بَرّنَوّ». وكان مسدس وبندقية »‬بَرّنَوّ» من أشهر الأسلحة الخفيفة التي تنتجها تشيكوسلوفاكيا، ومازالت شائعة في مختلف الجيوش والعصابات.
كان الطريق جميلاً ورائعاً توقفنا خلاله أمام أحد البساتين العامرة بالفواكه حيث رحب بنا أصحابها ودعونا إلي تناول عصير الفواكه الذي ينتجونه في نفس البستان. وأصر الرجل المسئول علي أن نشرب كأساً في صحة الصداقة العراقية التشيكية ثم كأساً آخر في صحة الوفد الزائر (يعني نحن) أعقبه بكأس ثالث في صحة الشعب العراقي، فأخذتنا الحمية وطلبنا أن نشرب كأساً في صحة الشعب التشيكي الصديق وكأساً آخر في صحة أصحاب البستان. وبعد ان امتلأت بطوننا بالعصائر والزيتون والعنب وطاب لنا المقام قام المرافق بسحبنا إلي السيارة قبل أن نقترح المبيت في البستان!
وحين وصلنا إلي المصنع اكتشف وفدنا أن المصنع لا ينتج أي نوع من الأسلحة الخفيفة أو الثقيلة وإنما هو أول مصنع في العالم يحمل اسم »‬باتا» متخصص بصناعة وبيع الأحذية، وقد وصلتني كلمة »‬بَرّنَوّ» في إجابة المرافق بالصُدفة وتبين إنه قال »‬باتا»! وأكتشفنا أيضاً أن باتا هو المواطن التشيكي توماس باتا الذي أصبح فيما بعد امبراطور صناعة الأحذية في العالم كله. فلم تكن »‬باتا» مجرد علامة تجارية متواضعة ولكنها أصبحت مؤسسة صناعية عملاقة أنشأها ذلك الرجل في عام 1940 ثم قام النظام الشيوعي بتأميمها، فسافر صاحبها إلي كندا ومنها انطلق بإنتاجه إلي جميع القارات، لكنه عاد إلي براج بعد سقوط النظام الشيوعي فيها إلي أن توفي قبل نحو عشر سنوات وخلفه في إدارتها حفيده.
المهم نظم لنا المسئولون جولة إجبارية في أنحاء المصنع، ووجوهنا مكفهرة، اطلعنا خلالها علي أنواع القوالب و»الفرش» والخيوط والأربطة لمختلف الاحذية الرجالية والنسائية والولادية. وكنا نتصنع الاهتمام بخطوط الإنتاج، وقلت لهم من باب المجاملة إننا سنعمل علي زيادة استيراد الأحذية منكم، رغم أن التأميم الإشتراكي في العراق شمل ببركاته في الستينيات مصنع أحذية باتا وتحول إلي إنتاج أحذية للجيش والشرطة بالاضافة إلي إنتاجه المدني المحدود تحت إسم »‬جلود». ثم قادنا مدير العلاقات في المصنع إلي قاعة تحمل علي بابها لوحة أنيقة تقول: »‬قاعة كبار الزوار» فنفخنا أوداجنا علي طريقة كبار المسئولين، بينما تهيأ أحدنا، وكان حزبياً كبيراً، لإلقاء خطبة عصماء كان مطلعها: »‬أيها الرفاق الأعزاء».. وختامها »‬ولتسقط الامبريالية».. لكنه غير رأيه ولم يلق الخطبة.
وجلسنا في القاعة حول مائدة طويلة صُفت في وسطها أنواع من الأحذية والقباقيب والشباشب وبعض المشروبات التي لم نلمسها لكثرة ما شربناه في البستان وبعض المعجنات التي انقضينا عليها مثل انقضاض الجنود في حرب الهكسوس.
سنعيد بناء المفاعل النووي العراقي
ولأنني كنت الوحيد في الوفد الذي يتحدث الإنجليزية بطلاقة علي الطريقة الهندية فقد أصبحت المتحدث الرسمي باسم العراق وليس باسم الوفد! ولأننا لا نعرف غير الإشادة والاستنكار فقد ألقيتُ خطاباً قصيراً مرتجلاً أشدت فيه بعلاقات الصداقة بين البلدين، وامتدحت ما شاهدناه من تطور الأحذية التشيكية، واستنكرت كالعادة المؤامرات الامبريالية والصهيونية. وردّ عليّ رئيس مجلس الادارة بكلمة بالتشيكية، ترجمها لنا مرافقنا كما يشاء، عرض فيها تصدير أحذية للشعب العراقي بأسعار مخفضة وبالتقسيط المريح.
وقبل أن نستأذن بالانصراف طلب مني الرفيق عضو وفدنا أن أقول لهم إننا سنعيد بناء المفاعل النووي العراقي الذي كانت إسرائيل قد دمرته! ولم أستطع الرد عليه أمام المسئولين التشيك فما علاقة الأحذية بالمفاعل النووي؟ فكان عليّ أن أستغل جهله باللغة الانجليزية فقلت لهم إن صاحبي يؤكد إعجابه بإنتاج مصنعكم ويوجه لكم الدعوة لزيارة مصانع أحذيتنا في بغداد.
كان ذلك قبل أكثر من ربع قرن، ونسيت موضوع هذه الأحذية إلي أن شاهدت لافتة »‬باتا» في أحد شوارع القاهرة فتذكرت صفقة الاحذية التي لم تتم والمفاعل النووي الذي لم يفكر أحد بإعادة بنائه وعصائر البستان التشيكي.. وندمت لأننا لم نبتّ بالصُدفة في تلك الليلة في ذلك البستان.
• كاتب عراقي مقيم بالقاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.