في بداية عملي الوظيفي في أوائل الستينيات من القرن الماضي في أمانة العاصمة العراقية التي أصبح إسمها (أمانة بغداد)، تم إبلاغنا بأن وزيرة البلديات ستزور الامانة باعتبارها إحدي الدوائر التابعة للوزارة. وقام الفراشون برش أرضيات الغرف بالماء لتبريد الجو، وتولي الملاحظ بنفسه قتل جميع الذباب، وساعده في هذه المهمة معاونو الملاحظ الذين طاردوا القطط السائبة التي كانت تصول وتجول بين المكاتب تلتقط بقايا الكفتة والكباب من "سندويتشات" الموظفين. وفجأة صرخ أحدهم: "جاءت الوزيرة"! وكانت الوزيرة الراحلة نزيهة الدليمي وزيرة مثقفة ومحترمة لها شنّة ورنّة دولية باعتبارها عضوة قيادية في الحزب الشيوعي العراقي، وهو ما دفع أحد زملائي في الغرفة التي تضم سبعة موظفين، وكان شيوعي الهوي، الي الصراخ فور دخول الوزيرة: "قيام"! وقمنا من كراسينا مثل تلاميذ المدارس حين دخلت "الوزيرة" وخلفها خمسة من مرافقيها. وقالت: صباح الخير. الا اننا لم نرد "من هول المفاجأة" كما كان يقول يوسف بك وهبي. فلم تكن السيدة الداخلة وزيرة البلديات وإنما المطربة العراقية القديمة زهور حسين صاحبة أجمل الاغاني الشعبية في تلك السنوات! وقد تصادف ان جاءت المطربة في نفس التوقيت المفترض للوزيرة لانهاء بعض الاوراق الخاصة بملهي كانت تمتلكه! دخلت علينا زهور حسين بعباءتها البغدادية السوداء وخلفها سائقها ومحاسب الملهي وثلاثة من حراسها، بينما لم تقم الوزيرة بالزيارة أساساً! وفي فيلم "غزل البنات" وهو واحد من أجمل افلام السينما المصرية القديمة، يذهب ملك الكوميديا العربية نجيب الريحاني (الاستاذ حمام) الي بيت الباشا لاستلام مهمة إعطاء دروس خصوصية في اللغة العربية لبنت الباشا ليلي مراد. فيستقبله أحد المستخدمين الأنيقين ويطلب منه الانتظار في الصالة لحين نزول الباشا للاتفاق معه. وبعد قليل يأتي أحدهم فيظن الريحاني انه الباشا ويقدم له آيات الاحترام والتبجيل قبل ان يكتشف انه ليس الباشا وانما المستخدم الخاص برعاية الكلب. ثم يأتي شخص آخر أكثر أناقة فيظن الريحاني انه الباشا بشحمه ولحمه فيسلم عليه بحرارة وتقدير يليق بالباشوات ثم يكتشف خطأه وانه ليس الباشا وإنما الطباخ. وحين يأتي الباشا الحقيقي (سليمان نجيب) وهو يرتدي ملابس متواضعة وبيده مقص تقليم الاشجار يظن الريحاني انه فلاح الباشا فلا يعيره أي اهتمام ويتعامل معه باستعلاء وعبارات مهينة.. وكانت النتيجة طرده من القصر! وفي فيلم "رجب فوق صفيح ساخن"، يلتقي الفلاح (عادل إمام) في محطة قطار القاهرة النصاب (سعيد صالح) الذي يقدم له نفسه علي انه "بلدياته" ثم يرافقه الي أحد الفنادق الراقية لكي يعرفه بصاحب الفندق ويغتسل من "وعثاء" السفر و"يتشطف". ويفاجأ في مدخل الفندق بصبي يرتدي ملابس مزركشة فيأخذه بالاحضان باعتباره ابن صاحب الفندق قبل ان يكتشف انه عامل المصعد! وقبل أيام تجمعت حشود جماهيرية وعسكرية ليبية في أحد المطارات العسكرية في طرابلس لاستقبال طيارين ليبيين رفضا قصف الثوار في بداية الثورة ولجأ بطائرتيهما الي مالطا. وقبل ان تهبط الطائرة التي تقل الطيارين العائدين لبلدهما حطّت في المطار طائرة صغيرة تحمل علامة الأممالمتحدة، وظن المستقبلون انها تحمل الطيارين البطلين العائدين، فتجمعوا عند مدخل الطائرة، وما ان بدأ ركابها بالنزول حتي انطلقت صيحات "الله أكبر" و"يسقط القذافي"، ثم تصاعدت الهتافات حين نزل من الطائرة راكب أسمر البشرة فبدأ المستقبلون بتقبيله وتحيته وحمله علي الأكتاف. وعندما سأله مراسل التليفزيون الليبي عن شعوره إزاء عدم امتثاله لأوامر القذافي بقصف الثوار في مدينة بنغازي ردّ بالقول: "لا يمكن أن أصف هذا الشعور لانني لست من قام بهذا العمل، فأنا ممثل وزارة الخارجية الليبية المرافق لوفد برلماني أوربي نزل من الطائرة قبل لحظات"! لقد حدث موقف مشابه لكثير من العراقيين الذين كانوا ينتظرون "الفرج" علي أيدي "المحررين" الاميركيين، فاذا بالمحتلين يعتقلون "فرج" ويعذبونه ثم يقتلونه!