مأزق الدول الغربية يتمثل في بحثها عن نظم حكم مستقرة تحظي برضا شعبي، في البلاد العربية والإسلامية، وتتحالف مع الغرب، وتحمي مصالحه. ويتمثل المأزق في الجمع ما بين نظام مستقر ويحظي بالرضا الشعبي ويتحالف مع الغرب في وقت واحد. لذا تتردد العديد من الأفكار في أروقة الباحثين الغربيين حول تلك القضية، للبحث عن القوي أو النخب التي يمكن أن تلقي تأييدا غربيا، وفي نفس الوقت تحظي بقبول معقول يحقق الاستقرار. وتتراوح الآراء بين العلماني الليبرالي، والعلماني الإسلامي، وكأن الاختيار أصبح محصورا بين النخب التي تقبل العلمانية، والمفاضلة تنحصر بين الليبرالي العلماني والإسلامي العلماني. فمن يحظي بالدعم الغربي في النهاية؟ في تركيا نال الدعم الغربي حزب علماني محافظ، أسسه إسلاميون، وهو حزب العدالة والتنمية. حدث هذا بسبب عدم قدرة النخب العلمانية علي تأسيس نظام حكم مستقر، يتوافق مع معايير الديمقراطية. ولم يعمل الغرب علي تأسيس حزب العدالة والتنمية، ولم يكن وراء تلك التجربة، ولكن عندما وجدت نخبة إسلامية تريد تأسيس حزب يحافظ علي العلمانية، ويؤسس لديمقراطية كاملة، رأت فيه البديل المناسب لتحقيق الاستقرار والديمقراطية في تركيا، خاصة لأن الحزب حظي بدعم شعبي واسع. لذلك أيد الغرب تلك التجربة، وظل لفترة طويلة يعتبرها النموذج المناسب للحزب السياسي الذي يمثل الإسلاميين في نظام ديمقراطي تعددي. فالغرب نظر لهذا الحزب بوصفه الصيغة المناسبة التي يجب تعميمها في الدول العربية والإسلامية، لما يمثله من تمسك بالمعايير والقواعد والمبادئ العلمانية. أما حزب العدالة والتنمية فرأي أن التمسك بالعلمانية يعطيه الفرصة لتحقيق ديمقراطية حقيقية في تركيا دون سيطرة مؤسسات العلمانية القوية، والتي تتمثل أساسا في الجيش والقضاء. أيا كانت نظرة حزب العدالة والتنمية للمرحلة التالية لتحقيق الديمقراطية، فقط أصبح الحزب يثير تحفظات غربية بسبب مواقفه بعد حرب إسرائيل علي قطاع غزة. صحيح أن الحزب لم يدعم المقاومة الفلسطينية، ولم يقم بمواقف عملية ضد إسرائيل، ولكنه اكتفي بالنقد الخطابي المعنوي، ولكن الدول الغربية بدأت تري في مواقف الحزب خطابا يخالف قواعد التحالف مع الغرب، حتي وإن لم يخالف أسس العلمانية. لهذا قد تتراجع فكرة تأييد الغرب لحزب علماني يؤسسه إسلاميون، بسبب خطابه غير المنضبط بالمصالح الغربية بالصورة الكافية. وفي نفس الوقت فإن تكرار التجربة في البلاد العربية والإسلامية لن يصل إلي النتيجة نفسها التي تحققت في تركيا. فقد كان في تركيا نظام علماني متطرف، وجاء حزب العدالة والتنمية كحزب علماني معتدل، ولكن في دول أخري مثل مصر، سنجد أن نظام الحكم العلماني المستبد، أقل في علمانيته من علمانية حزب العدالة والتنمية. فالسلطة الحاكمة في مصر قد تأخذ موقفا من النقاب مثلا، ولكنها في الوقت نفسه تدير المساجد وتصرف علي أنشطة إسلامية، فعلمانية الدولة المصرية أكثر اعتدالا من علمانية حزب العدالة والتنمية التركي، كما أنها أكثر جزئية من علمانيته. لذا فإن قيام حزب علماني علي يد إسلاميين في مصر، يفترض فيه أن يكون أقل علمانية من النظام الحاكم. وهنا تبرز مشكلة تضاؤل المبادئ العلمانية الحاكمة تدريجيا، مما قد يمهد لقيام نظام إسلامي. فالدول الغربية لا تتوقع حتي الآن، إمكانية قيام حزب العدالة والتنمية بتأسيس دولة إسلامية بديلة عن الدولة العلمانية الحالية، حتي بعد استكماله مسار تطوير الديمقراطية ليكون الحكم للشعب. أما وصول حزب علماني يؤسسه إسلاميون في مصر، فقد يحمل مخاطر التحول إلي نظام إسلامي، خاصة أن علمانيته ستكون محدودة بسبب طبيعة المجتمع المصري، الذي لم يتعرض لعملية علمنة شاملة مثل المجتمع التركي، وحظي بحرية في المجال الديني، لم يحظ بها الشعب التركي. كل هذه العوامل تدفع الغرب إلي لبحث عن نخبة علمانية بحق، أي نخبة علمانية ليبرالية، وليست يسارية، لأن الغرب يعادي التوجهات اليسارية، بما في ذلك الاتجاهات القومية والناصرية. لذا يصبح البديل الأنسب للغرب، هو البحث عن نخبة علمانية ليبرالية، تحظي برضا شعبي. وتظهر هنا المشكلة الرئيسة، حيث إن الليبرالية لم تصبح بعد تيارا شعبيا، بل هي أقل التيارات التي حظيت بشعبية في مصر، وغيرها من البلاد العربية والإسلامية. فالتوجهات الناصرية والقومية العربية واليسارية، توافقت مع بعض التوجهات الشعبية في مراحل تاريخية معينة، مما مكنها من تكوين قاعدة شعبية لها، رغم أن معظم هذه التوجهات فقد الكثير من شعبيته الآن، بسبب تراجع الجماهير عن تأييدها، حيث رأت فيها مشاريع مجربة، ولم تنجح. ولهذا السبب، يمكن للدول الغربية إعادة التفكير في إمكانية ظهور نخبة إسلامية، ترضي بالمعايير العلمانية في المجال السياسي، وتقصر المعايير الإسلامية علي المجالين الاجتماعي والخاص. فإذا لم تتوافر أي نخبة علمانية ليبرالية مؤيدة بقاعدة شعبية معقولة، فلن يكون هناك بديل عن البحث عن نخبة إسلامية تقبل العلمانية. ولكن الغرب مازال يراهن علي التغييرات الكونية الحادثة بسبب العولمة، ويري أن فضاء المعلومات والمعرفة، وما يمثله الإنترنت ووسائل الاتصال الحديث، يمكن أن تكون وسيلة لتنمية قواعد شعبية من الشباب، خاصة في الدول العربية والإسلامية، مؤيدة للعولمة. والعولمة هي الباب الذهبي للعلمانية، ومن ثم الليبرالية. ومع توجه قطاع من الشباب نحو الفضاء المفتوح، يتوقع البعض قيام قواعد شعبية، علي الأقل شبابية، للرؤية العلمانية الليبرالية. لذا سارع الغرب إلي تأييد المعارضة الإيرانية، علي أمل أن تكون بداية لتكون كتلة شبابية مؤيدة للعلمانية الليبرالية، في أي صورة من صورها.كل هذا يوقع الدول الغربية في حالة من التردد والارتباك، خاصة وهي تحظي الآن بحكومات مستبدة مؤيدة لها ومتحالفة معها. وقد يري الغرب في تلك الأنظمة المستبدة، أنها الطرف الوحيد المتحالف مع الغرب، تحالف مضمون بدون أي مخاطرة. فالسلطة المستبدة التي لا تحظي بأي دعم شعبي معقول، هي سلطة في حاجة إلي الاعتراف الدولي، أي الاعتراف الغربي، وفي حاجة إلي الدعم الغربي. والدعم الغربي لا يتوقف علي التعاون والتمويل والتأييد، ولكنه يصل إلي التلميح بعدم قبول الغرب أي تغيير لتلك النخب الحاكمة، مما يعني أن الدول الغربية تقدم غطاء للسلطة المستبدة، وتحذر أي طرف من الخروج عليها، لأنه يمكنها مقاطعة أي حكومة جديدة لا تأتي برضا وتوافق غربي. ولأن هناك الحل المضمون، لذا يلجأ الغرب لهذا الحل ويتمسك به، ثم يبحث عن جدوي الحلول الأخري. والمتوقع أن يظل الرهان الغربي علي السلطة المستبدة باعتبارها البديل القائم بالفعل، ثم يبحث عن البديل العلماني الليبرالي، والذي يمثل الحل الأمثل، لأنه يمثل النخبة المؤمنة بالفعل بالمشروع الغربي، والتي سوف تتحالف مع الغرب عن قناعة، وليس فقط للمصلحة. وسيظل الغرب يبحث عن البديل الثالث، وهو الإسلامي العلماني، والذي يمكن أن يمثل الحل إذا تعذر استمرار النخبة المستبدة، ولم تتمكن النخب العلمانية الليبرالية من الحصول علي الرضا الشعبي. هنا يصبح الإسلامي العلماني هو الحل، لأنه البديل عن الحركة الإسلامية، لذا يمكن أن يكون قادرا علي جذب الجماهير، والتأثير في قواعد الحركة الإسلامية، وتقديم حل تحت عنوان إسلامي ومضمون علماني، يحظي بدعم غربي، أي يقدم بديلا غير مكلف، ليصبح وسيلة لجذب الجماهير بعيدا عن الحركة الإسلامية، وبديلا تلجأ له الدول الغربية، عندما تفشل البدائل الأخري.