لعل أبرز ما يشي به ذلك التحول الهاديء الذي اعتري أجندة السياسات العالمية خلال العقد الأخير والمتمثل في إفساحها المجال أمام قضايا قيمية عالمية بدأت تحظي بقدر، لابأس به، من الاهتمام الدولي مثل الحوار بين الحضارات، الذي يهدف بدوره إلي التوصل لاتفاق كوني علي صياغة مجموعة متناسقة من القيم العالمية التي تأخذ في اعتبارها التنوع الإنساني الخلاق تحت مظلة ما يعرف بالحضارة الإنسانية بمفهومها العالمي الأوسع، هو أن البشرية قد بدأت تتجه نحو المزيد من النضج والحكمة في إدارة حياتها علي الأرض عبر ترشيد التفاعلات الإنسانية وتحريرها من نير الصراعات المصلحية والخلافات المادية المفتعلة التي باعدت بين الشعوب وحولت الحضارات والثقافات والأديان، التي هي في الأصل وشائج ترابط وتواصل وتعاون، إلي محفزات للاختلاف والتباين وبواعث للصدام والتصارع. بيد أن مثل هذا التوجه العالمي الحذر صوب الحوار الحضاري لم تزل تشوبه بعض الشوائب التي من شأنها أن تنال من فعاليته وجدواه. فبالرغم من الزخم الذي اكتسبه الجدل الراهن حول حوار الحضارات، إلا أنه يصعب الزعم بأن ذلك الأخير كان مطلبا ثقافياأصيلا أومقصدا فكرياملحا ظل يختمر داخل الوعي الجمعي لشعوب العالم توطئة لشغل موقع متميز علي جدول أعمال حكوماته. ذلك أن فكرة الحوار الحضاري قد لاحت في الأفق العالمي للمرة الأولي علي نحو رسمي أو مؤسسي معلن بوصفها رد فعل سياسي وأمني من قبل بعض الدوائر السياسية والأمنية الغربية علي تجدد التوتر في العلاقات بين الشرق والغرب إثر إقدام بعض الأقلام الغربية علي تعبئة الرأي العام الرسمي والشعبي هناك ضد الإسلام والمسلمين في أعقاب الانهيار المدوي لما كان يعرف بالإتحاد السوفيتي السابق عام 1990، لاسيما بعد أن نزعت دوائر دينية وأمنية غربية نحو الترويج لفكرة أن الإسلام قد أمسي عدوا بديلا للغرب وخطرا أخضر علي حضارته ومكتسباته بعد الخطر الأحمر الشيوعي البائد. وهكذا، لم تكن الدعوة إلي حوار الحضارات تستند إلي اعتباره ضرورة إنسانية في زمن طغي الصراع السياسي والتنافس حول المصالح علي مجمل التفاعلات الدولية والعلاقات الإنسانية، ولكنها ظهرت كرد فعل لاحتدام الجدل بشأن أطروحة صراع الحضارات الذي بشر به المفكر الأمريكي صموئيل هنتنجتون في صيف العام 1993، معتبرا إياه نموذجًا معرفيا لتفسير السياسات والتفاعلات العالمية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مستخدما "الحضارة" كوحدة تحليل مغايرة لتلك التي سادت الحقل السياسي العالمي فيما مضي وهي "الدولة"، علي اعتبار أن الحضارة ستكون أبرزالقوي المحركة والمفسرة للعلاقات الدولية في عالم ما بعد الصراع الأيديولوجي. وحينما اكتسب الاهتمام بحوار الحضارات زخمًا هائلا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تلاها من عمليات عنف استهدفت بعض العواصم والمدن والمصالح الغربية كلندن ومدريد، تنامي دور العامل الأمني باعتباره أبرز المحفزات لدي بعض الدوائر السياسية الرسمية الغربية لتبني فكرة الحوار بين الحضارات ولكن بعد اختزالها في حوار حضاري بين الغرب و الإسلام، خصوصا بعد أن أضحي ذلك الأخير يمثل، من وجهة النظر الغربية، مصدر تهديد للغرب وإنجازاته الحضارية، لاسيما بعد أن أسهمت التطورات السياسية والثقافية الدولية التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، والتي كان من أبرزها ظهور حركات الإسلام السياسي الجهادي وتصاعد دورها علي الساحة العالمية من خلال أعمال العنف المتتالية التي استهدفت من خلالهامناطق عديدة في العالمين الغربي والإسلامي علي السواء، في أن يحتل الإسلام والمسلمون مكانة خاصة علي أجندة حوار الحضارات، الذي كان لزاما عليه ألا يغفل قضيةالعلاقة بين الثقافات والأديان. ومن رحم تلك التطورات، جاءت للمرة الأولي مبادرة رئيس الوزراء الأسباني ثاباتيرو من أجل الترويج لفكرة "تحالف الحضارات" في خطاب له أمام الأممالمتحدة بعد وصوله إلي سدة الحكم في أعقاب التفجيرات التي استهدفت محطات مترو أنفاق العاصمة الأسبانية مدريد في 11 مارس 2004. وقد بنيت الفكرة علي مقصد أساسي يتمثل في القضاء علي سوء الفهم بين الغرب والعالمين العربي والإسلامي بشأن القضايا المسببة للإرهاب مثل الحرب علي العراق. وقد قوبلت فكرة "تحالف الحضارات" بترحيب عالمي واسع النطاق علي المستويين الرسمي والشعبي، بعد أن أيدته حتي الآن 30 دولة من مختلف قارات العالم من بينها الأرجنتين والمكسيك والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا ومصر والصين، إضافة إلي أسبانيا الدولة المتبنية للفكرة، والمغرب الذي يعتبر فاعلا أساسيا في الاجتماعات الخاصة بتطبيقها.كما حظيت الفكرة بدعم الاتحاد الأوربي والجامعة العربية، والمؤتمر الأسباني اللاتيني، المعروف بالمؤتمر الإيبيرو أمريكي، وهو تجمع يضم أسبانيا إلي جانب بلدان أمريكا اللاتينية. وبالرغم من أن مبادرة رئيس الوزراء الأسباني لم تكن الأخيرة أو الوحيدة عالميا في هذا السياق، إلا أن ما أظل قضية الحوار بين الحضارات من اهتمام دولي متزايد لم يكن ليحررها من أسر الدوافع الأمنية والاعتبارات المصلحية التي تعمد إلي توظيفها لخدمة الأهداف الاستراتيجية للدول الكبري من جهة، إلي جانب ضبابية الرؤية بشأن طريقة التعاطي الناجع مع الحوار الحضاري المنشود من جهة أخري،حيث لم يكن معظم الحديث وقتئذ منصبا في صلب موضوع الحوار الحضاري بقدر ما كان يدورحوله، وذلك علي حساب الأبعاد الأخري الجوهرية للموضوع مثل كيفية البدء فيه، القضاياالتي سيتناولها، آلياته، شروط انعقاده والأطراف المشاركة فيه. إذ استحوذ علي معظم هذا الحديث انشغال الرأي العام العالمي بالبحث عن إجابة وافية ومحددة لتساؤل محوري يحاول تحديد شكل العلاقة بين الحضارات ما بين الحوارأوالصراع، وهو التساؤل الذي غدا ملحا بعد أن خرج هنتنجتون علي العالم بتصريح جديد أكثر إثارة في أعقاب ثبوت ضلوع عناصر عربية إسلامية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 الأمريكية، قال فيه: لقد تحققت نبوءتي"، قاصدا الصدام بين الحضارتين الإسلامية والغربية. فضلا عن ذلك، لاتزال فكرةالحوار الحضاري تفتقد للإجماع داخل الأوساط الغربية، رسمية كانت أو شعبية،ففي حين تري بعض الدوائر الثقافية هناك أن حوار الحضارات قد أمسي ضرورة كونية ملحة لتقريب الهوة بين الشرق والغرب وتجاوز جراحات الماضي وتلاشي مواجهات مستقبلية دامية محتملة قد لا تفلح القوة العسكرية الغربية المتفوقة مرحليا وحدها علي تجنيب الغرب ويلاتها، ترتأي دوائر أمنية وسياسية أخري هناك أن مسألة حوار الحضارات لا تزال تأتي في عداد قضايا السياسة الخارجية الأقل أهمية بالنسبة للدول الكبري، حيث تعتبرها المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية Low Issue Politics، ومن ثم تتراجع علي أجندة تلك الدول لتفسح المجال أمام القضايا الأكثر أهمية والمتعلقة بالمصالح الإستراتيجية والأمن القومي High Issue Politics، كما أن التفوق الحضاري المادي الكاسح للغرب حاليا يجعله غير مضطر، لأي سبب كان بما في ذلك الدواعي الأمنية، لحوار غير متكافيء مع حضارات يعتبرها أدني منه مرتبة وأضعف مقدرة، حيث يمكنه التعاطي مع أية تهديدات محتملة أو قائمة بالفعل من قبل الإسلام أو غيره، عبر قوتة الرادعة. وانطلاقا من ذلك الطرح الأخير، تولد شعور لدي تيار عريض داخل الأوساط الغربية بالاستعلاء ثم الوصاية علي الشرق العربي الإسلامي الطائش والمتمرد علي ناموس العولمة والحداثة، حيث يرتأي هذا التيار أن الغرب الليبرالي الرأسمالي هو الأكثر تفوقا في الوقت الراهن ماديا وحضاريا، علي نحو ما تجسد في طروحات "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما ومن قبلها "المركزية الأوربية" و"الغرب والباقي"، ومن ثم فإنه يعتقد في جدارته وأحقيته في الإمساك بزمام المبادرة بشأن أي حوار حضاري وتوجيهه كيفما شاء علي اعتبار أن الحضارة الإسلامية قد أضحت ضعيفة ماديا بعد أن نضب معينها الحضاري ولم يعد بوسعها أن تقدم جديدا للبشرية هذه الأيام سوي الإرهاب والعنف وقمع الحريات واضطهاد المرأة والأقليات. وبالتالي، فإن الغرب الرشيد والمستنير هو الأولي، من وجهة نظر ذلك التيار الغربي المتطرف، بوضع أجندة الحوار وتحديد قضاياه وأولوياته حتي يتم تدعيم وتعميم القيم الغربية المتمثلة في: الحريات والحقوق الفردية خاصة حقوق المرأة، التعددية، حقوق الإنسان والديمقراطية، وهي القيم التي يعتبرها الغرب تخريجا لنتاجه الحضاري يسعي للتبشير به وفرضه عالميا من خلال العولمة بحجة معالجة جذور الإرهاب الإسلامي الذي يهدد الحضارة الغربية والتراث الإنساني. ومن أبرز ما يطرحه الغرب محاولا أن يمليه علي الآخر الإسلامي العربي في هذا السياق هو نموذج "الإسلام المُعدّل"، الذي تعكف دوائر أمنية وسياسية غربية علي إقناع الدول العربية والإسلامية باتباعه وتبنيه أسوة بالتوجه التركي الإسلامي العلماني التغريبي، الذي يعتبره الغرب بمثابة النموذج الإسلامي الأقدر علي إجراء الحوار الحضاري الناجع مع الغرب.