انعقد منتدي جريدة الاتحاد السنوي الخامس في أبو ظبي يومي21,20 أكتوبر2010, وكان الموضوع الرئيسي هو العرب ودول الجوار. وقدمت أوراق متميزة كتبها باحثون عرب مرموقون, دارت حول ستة موضوعات هي إيران والجوار العربي وأعد ورقة العمل د. رضوان السيد, والعلاقات العربية التركية للدكتور وحيد عبد المجيد, والعرب والجوار الأفريقي للأستاذ حلمي شعراوي, والعلاقات العربية الأمريكية للدكتور عبد الله خليفة الشايجي, ومحور إسرائيل: عملية السلام مع الفلسطينيين للدكتور إبراهيم البحراوي, وأخيرا مشروع عربي لتطوير التعاون الإقليمي للدكتور برهان غليون. وكان هناك معلقون علي كل ورقة عمل, بالإضافة إلي المناقشات التي أدارها أعضاء هذا المنتدي المتميز. ونريد اليوم أن نقف بالتحليل أمام المشروع العربي لتطوير التعاون الإقليمي الذي قدمه في ورقته المفكر السوري المعروف الدكتور برهان غليون, رئيس معهد بحوث الشرق الأوسط في جامعة السوربون. والواقع أن الاختيار المرفق لموضوع المنتدي والذي دارت أبحاثه حول العرب ودول الجوار, مرده إلي التغيرات الكبري التي لحقت ببنية النظام الإقليمي العربي منذ إنشاء جامعة الدول العربية عام1945 حتي الآن. ولا نستطيع أن نتعقب الأزمات الكبري التي تسببت في تشقق النظام العربي, والتي ربما كان أخطرها علي الإطلاق الغزو العراقي للكويت في عهد الرئيس السابق صدام حسين, وما أدي إليه من تفتيت مفهوم الأمن القومي العربي والذي كان يقوم علي مسلمة رئيسية مبناها أن مصدر التهديد الرئيسي للأمن العربي هو دولة إسرائيل. ولم يكن في حسبان مخططي النظام العربي أن التهديد يمكن أن يصدر من دولة عربية تغزو بقواتها العسكرية دولة عربية أخري, مهما كانت الحجج والتبريرات. غير أنه بالإضافة إلي الأزمات المتكررة التي واجهها النظام العربي فإن ما يدعو للمراجعة والبحث عن نقطة انطلاق جديدة, هي التغيرات العالمية الكبري والتحولات الواسعة المدي في بنية النظام الإقليمي. ومما لا شك فيه أن العولمة وهي العملية التاريخية التي أحدثت انقلابات واسعة المدي سياسية واقتصادية وثقافية أثرت علي كل دول العالم, من شأنها أن تدفع صناع القرار العرب إلي تقييم سياساتهم الراهنة بروح نقدية, ورسم صورة مستقبلية لرؤية استراتيجية مشتركة. غير أن التحولات في بنية النظام الإقليمي في الشرق الأوسط لا تقل أهمية عن تأثيرات العولمة. فمازالت الدولة الإسرائيلية تواصل اعتداءاتها المتكررة علي حقوق الشعب الفلسطيني, وتتمدد بالاستيطان المنظم في صميم أراضي الضفة الغربية. وهي بتسليحها المتطور ستظل مصدر التهديد الأساسي للأمن القومي العربي, بالرغم من معاهدات السلام التي وقعتها مع كل من مصر وإسرائيل. غير أن بروز الدور الإيراني في العقد الأخير غير موازين القوي في الإقليم. فقد أسفرت إيران عن ملامح مشروع تأسيس دولة تصبح هي القوة الإقليمية الكبري في المنطقة, متنافسة في ذلك حتي مع إسرائيل وخصوصا في مشروعها لتصنيع قنبلة ذرية, مما من شأنه أن يقلب كل الموازين في المنطقة.كما أن تركيا استطاعت في عقد من الزمان أن تنهض نهضة اقتصادية كبري, وأن يصبح لها دور واضح في التأثير علي السياسة العربية. لكل ذلك كان منتدي الاتحاد موفقا غاية التوفيق في اختيار موضوع العرب ودول الجوار, لاستكشاف ملامح التغير في النظام الإقليمي واستشراف المستقبل. كيف يمكن التخطيط العربي الواعي للمستقبل؟ هذا هو الموضوع الذي عني به برهان غليون وقدم بصدده اقتراحا جسورا, تقوم فكرته الرئيسية علي أنه ليس هناك خيار أفضل لضمان أمن الخليج من المراهنة علي استراتيجية بناءة وإيجابية قائمة علي تعزيز علاقات التعاون والتشاور والتفاهم بين دول المنطقة جميعا والدول الكبري المعنية. وهو ما يستدعي العمل من أجل إقامة منظومة للأمن الجماعي الإقليمي تضم إلي جانب بلدان الخليج الدول العربية المشرقية وإيران وتركيا... وهو ما يستدعي بالمثل تعديلا في توجهات الدول الإقليمية أيضا, وتجاوزا لأفق الأيديولوجيات القومية العربية والتركية والإيرانية معا. واعتقد اليوم أكثر بأن إخراج المنطقة من دوامة الصراع الدولي والعنف المتعدد الأشكال المرافق له, والذي ينتشر وتتوسع دائرته باستمرار, يستدعي بناء مشروع يتجاوز المشاريع القومية والاستعمارية معا. ويستند علي تفاهم دول المنطقة وشعوبها, بما يمكنها من تطوير وسائل التعاون الضروري للتنمية الحضارية, وتعزيز هامش سيادتها, وبالتالي مبادرتها الذاتية تجاه قوي التنافس الدولية الخارجية. هذا هو صلب مشروع التعاون الإقليمي الذي يطرحه برهان غليون, والذي حرصنا علي اقتباس عبارته بنصها لأنها خير معبر عن روح هذا المشروع الطموح. وقد عقبت في الجلسة التي عرض فيها المشروع. وأول فكرة تبادرت إلي ذهني تساؤل مبناه هل هذا المشروع مجرد يوتوبيا يحلم بتحقيقها مفكر سياسي عربي مرموق, أم أنه يمكن في ظل ظروف مواتية معينة أن يتحول إلي مشروع واقعي؟ وهل يمكن حقا كما نادي صاحب المشروع تجاوز أفق الأيديولوجيات القومية العربية والتركية والإيرانية معا؟ غير انني قررت أن استجيب لهذا المشروع بطريقة ايجابية, وطرحت علي نفسي سؤالا هو لو أردنا حقا تنفيذه بعد حصول توافق عربي عليه, فما هي الخطوات التي ينبغي اتخاذها حتي يتحقق؟ وأشرت في هذا المجال إلي ثلاث خطوات رئيسية: الخطوة الأولي: هي أهمية ممارسة عملية نقد ذاتي عربية واسعة المدي, والخطوة الثانية هي قراءة استشرافية لتحولات النظام الدولي وتغيرات بنية المجتمع الدولي, والخطوة الثالثة والأخيرة هي رسم ملامح رؤية استراتيجية للعالم العربي. والخطوة الأولي تتمثل في ضرورة ممارسة عملية نقد ذاتي واسعة المدي يقوم بها صناع القرار في النظم السياسية العربية المختلفة, لإبراز الجوانب السلبية في الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية, والتركيز علي الجوانب الايجابية, مما من شأنه أن يعطي الأمل في أن صناع القرار العرب في مجال الاستراتيجية العليا يمكن أن يصوغوا مبادرات إيجابية تقوم بتطوير مجتمعاتهم. ولاشك أن أولي خطوات النقد الذاتي هي نقد استمرار السلطوية, والحاجة إلي اصلاح ديمقراطي حقيقي, حتي لو كان ذلك متدرجا, لأن شعارات العولمة السياسية هي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية. كما أن شعارات العولمة الاقتصادية هي التنافس العالمي وحرية الاقتصاد, مما يقتضي احداث تغيرات بنيوية في صلب الاقتصاد, وأخيرا فإن شعارات العولمة الثقافية هي بروز ثقافة كونية تقوم علي الاعتراف بالآخر والتسامح ونبذ التطرف الفكري والعنف السياسي. وعملية النقد الذاتي العربي ينبغي آلا تقتصر علي صناع القرار فقط ولكن لابد أن يسهم فيها المفكرون والمثقفون العرب الذين لم يستطيعوا حتي الآن القيام بمهمة التجدد المعرفي والفهم العميق لتحولات العالم, واستشراف المستقبل بدلا من الغرق في بحور الماضي واعادة انتاج أفكاره البالية والعقيمة! ومما لاشك فيه أن دور مراكز الأبحاث الاستراتيجية العربية محوري في دفع عملية النقد الذاتي العربي في مختلف المجالات. أما الخطوة الثانية في تحويل يوتوبيا برهان غليون المقترحة إلي مشروع واقعي, فتتمثل في أهمية القراءة الاستشرافية للنظام الدولي والمجتمع الدولي. أما النظام الدولي فهو يمر في تقديرنا بمرحلة انتقالية حاسمة من النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية بحكم قوتها العسكرية الفائقة وتطورها التكنولوجي ومبادراتها المعرفية, إلي مجتمع متعدد الأقطاب. وهناك في هذا المجال نظريتان متعارضتان. النظرية الأولي أمريكية, وتري أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ينبغي أن تبقي سيدة العالم إلي الأبد بحيث كما اقترح عدد من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين ينبغي ضرب أي محاولة لإزاحتها من قمة العالم حتي باستخدام القوة العسكرية. والنظرية الثانية صينية وتري أن العالم سينتقل إلي مرحلة تعددية الأقطاب, وفق مخطط استراتيجي صيني اقترحته مراكز الأبحاث الاستراتيجية الصينية. أما التحولات الكبري التي لحقت ببنية المجتمع العالمي فهي التحول من نموذج المجتمع الصناعي إلي نموذج مجتمع المعلومات العالمي, الذي يقوم علي تدفق المعلومات والأفكار والسلع والخدمات ورؤوس الأموال والبشر علي مستوي العالم بلا حدود ولا قيود, وهذا هو جوهر العولمة. ومجتمع المعلومات العالمي سينتقل بدوره لكي يصبح مجتمعا للمعرفة, تلعب فيه عملية انتاج المعرفة التي تقوم علي الابداع الدور الرئيسي. والخطوة الثالثة والأخيرة هي أهمية وضع رؤية استراتيجية للوطن العربي, ونعني بالرؤية الاستراتيجية السياسات المقترحة لكي تطبق في الاعوام العشرين المقبلة. ونحن نعلم من متابعتنا الدقيقة للفكر العالمي في العقود الماضية أن كل دول العالم صاغت رؤاها الاستراتيجية, بل ووضعتها موضع التنفيذ. هناك أولا رؤية استراتيجية أمريكية وضعها المجلس القومي للاستخبارات الأمريكية بعنوان تخطيط المستقبل الكوني. وإسرائيل لديها رؤية استراتيجية منشورة في ستة عشر مجلدا باللغة العربية عنوانها إسرائيل20/20 وقد بادر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بترجمة ستة مجلدات منها إلي اللغة العربية.وعديد من الدول لديها رؤي استراتيجية, نحن فقط ليس لدينا رؤية استراتيجية عربية. إن كنا نبحث عن مشروع قومي يجمع شتات الجهود العربية, فإن مشروع وضع هذه الرؤية الذي ينبغي أن تسهم مراكز الأبحاث الاستراتيجية العربية في وضعها, بالاضافة إلي ابداع المفكرين العرب في مختلف المجالات. هذه هي الخطوات الأساسية التي اقترحناها حتي نحول المشروع الذي يقدمه برهان غليون من مجرد يوتوبيا إلي مشروع واقعي!