يوافق الثلاثاء بعد غد رأس السنة القبطية ورأس السنة الهجرية، وهذه هى ثانى مناسبة هذا العام نُعيد فيها مسلمين وأقباطا فى يوم واحد، لعل هذه الأمور تجعلنا ندرك جيداً التعايش الحتمى المفعل بالحب الذى لابد أن يدركه كل من لا يستطيع أن يقبل الآخر. ونود أن نلفت النظر أن التقويم هو نتاج حضارة وعلم وليس له أى معنى ديني. فالتقويم القبطى هو التقويم المصرى القديم الذى هو أول علم وتحديد للزمن. فأجدادنا العظام هم أول من وضع تقسيم الزمن الذى به عرف الإنسان الماضى والحاضر، وعرف اليوم وأدرك ارتباط حركة الكون بحياته فاستطاع أن يعرف الوقت والزراعة. ويقول هيرودوت: ما يتعلق بأمور البشر فالجميع على اتفاق أن المصريين القدماء هم أول من ابتدع حساب السنة وقسموها إلى اثنى عشر قسماً بحسب ما كان لهم من معلومات عن النجوم. وكان هذا إنتاج حضارة وعلم وفكر العالم المصرى تحوت أو توت الذى اعتبروه القدماء رب العلم والقلم ،لأنه هو الذى وضع أول تقسيم للزمن والسنة والأيام والدقائق، وأول من وضع الحروف الأولية للكتابة. وكان هذا عام 4241ق.م. وقد ولد «توت» فى قرية منتون بأبو قرقاص بالمنيا، ومن اهتمام الأجداد بالزراعة والنيل اكتشف توت ارتباط فيضان النيل كل عام بظهور نجم الشعرى اليمانية وهو بالمصرى القديم سبدت وهو ألمع نجوم مجموعة كلب الجبار، وقد قسم توت دورة النجم فى ظهوره إلى اثنى عشر شهراً بعدد الاثنى عشر برجاً الموجودة فى منطقة البروج التى يدور فيها الكواكب وتدعى زودياك «Zodiac»، ثم قسم الشهر إلى ثلاثين يوماً، وخصص أربعة أشهر للفيضان، وأربعة أشهر للزراعة، وأربعة أشهر للحصاد، ثم أضاف خمسة أيام وأطلق عليه اسم الشهر الصغير. ويقول المؤرخ دون كاسيوس: إن المصريين سموا الأيام السبعة بأسماء الكواكب السيارة، الأحد يوم الشمس «Sunday»، والإثنين يوم القمر «Monday»، والثلاثاء يوم الريح «Tuesday»، والأربعاء يوم عطارد «Wednesday»، والخميس يوم المشترى «Thursday»، والجمعة يوم الزهرة «Friday»، والسبت يوم زحل «Saturday». وقد نُقلت هذه الأسماء إلى الغرب. ويقول عالم المصريات بريستد: أن هذا التقويم العظيم حمله يوليوس قيصر إلى روما حين جاء إلى مصر وقد سُمى باسمه، وكان قبله روما تضع تقويم عشرة شهور فقط فأضاف إليها شهرين وهو يوليو على اسمه وأغسطس على اسم أغسطس قيصر. وظل التقويم المصرى هو المتبع به فى الغرب لذلك كانت الشهور القبطية تسير مع الشهور الغربية بلا اختلاف إلى أن جاء البابا أغريغوريوس عام 1582م واكتشف خطأ فى حسابات التقويم وصنع تعديلاً وسُمى التقويم الجريجورى وهو الذى يسير عليه الغرب إلى الآن. وقد اكتشف أجدادنا القدماء خطأ فى التقويم وسُجلت شكوى فى عصر الأسرة التاسعة عشرة أيام الرعامسة عن هذا الخطأ، وفى عام 239ق.م أيام حكم بطليموس الثالث توصل الكهنة المصريون بعد رصد كبير للنجوم إلى أسباب هذا الخطأ واخترعوا السنة الكبيسة والبسيطة وأضافوا كل أربع سنوات يوماً. وكان أول يوم فى السنة هو يوم احتفالى كبير مليئ بالفرح وكانوا يغنون بأغنية تقول: افرحى أيتها الأرض فقد أتى وقت الخير، يا جميع الأتقياء تعالوا وانظروا المياه تصعد وليس انحسار، النيل يحمل الفيضان العالى والألهة سعيدة راضية القلب، المياه تسرى فى ضحك والكل فى انبهار. وكانوا يذبحون الذبائح وتُعطى للفقراء. وكان سعف النخيل هو الصورة المميزة لبداية العام؛ وهذا لأن النخل كل دورة قمرية يُنبت غصناً وحينما يتم اثنا عشر غصناً تتم السنة، كما أن النخل يرمز إلى الارتفاع إلى السماء، وهو أخضر علامة على الخير الآتى من السماء لذلك كان البلح هو الفاكهة المميزة للعيد، وكانوا يأخذون البلح ويذهبون إلى المقابر فى بداية العام لإيمانهم بعقيدة الخلود وأن الراقدوين ليسوا أمواتا ويشاركونهم الفرح فى العام الجديد، وحين دخل الفرس مصر عام 525ق.م. واحتلوها سُمى هذا العيد النيروز وهى كلمة فارسية تعنى اليوم الجديد، وحين دخل العرب مصر صار العيد فرحة للجميع ويقول المقريزي: وكان النيروز القبطى فى أيامهم من جملة المواسم فتتعطل فيه الأسواق، ويقل سعى الناس فى الطرقات، وتفرق الكسوة لرجال أهل الدولة وأولادهم ونسائهم. وسُمى بتقويم الشهداء لأن الأقباط أرادوا أن يخلدوا تذكار قوة إيمانهم وثباتهم أمام الاضطهادات فاختاروا عام 284م يوم جلوس دقلديانوس على عرش روما بداية للتقويم القبطى الذى هو فى الأصل التقويم الفرعوني. ولكن بدأت السنة الأولى للشهداء ؛لأن هذا الإمبراطور قد أقسم على قتل كل مسيحى مصر. وهو أعنف اضطهاد عرفه الأقباط فى تاريخهم فقد هدمت الكنائس، وحرقت الكتب المقدسة، وأصدر أمراً بقتل كل الكهنة، ومن لا يبخر للأوثان يعذب حتى الموت، وقد أحصى ما قدمه الأقباط من شهداء فى هذه الفترة حدود مليون شهيد، وقد حافظ الأقباط على الاحتفال بهذا اليوم مع أكل البلح الأحمر والجوافة، البلح الأحمر؛ لأنه من النخل كما كان لأجدادنا، وأحمر لأنه لون الدم الذى للشهداء، والجوافة أيضاً؛ لأنها ثمرة حلوة المذاق ولكن داخلها بذر قوى علامة على الإيمان الحلو القوى الذى وقف أمام الطغاة. واليوم نحن نحتفل معاً فى يوم واحد ببداية سنة قبطية وهجرية، لنبدأ معاً مسلمون وأقباط عاما جديدا فى سلام وحب بلا كراهية ولا خصام، فالذى خلق هذا كله هو الإله الذى لا يزال يحفظ لنا بعنايته حياة جديدة، ويشرق كل يوم لنا برحمته. كل عام والبشرية كلها بخير الرب قادر أن يجعل هذا العام بداية جديدة يشرق فيها النور داخل القلوب لينتشر الخير والحق فى كل ربوع العالم لتنتهى الحروب وتعود للإنسانية صورتها التى أرادها الله حين خلق الزمن والوجود. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس