«السلع التموينية» تتعاقد على شراء 420 ألف طن قمح روسي وروماني    إذا لم تعرقله إسرائيل.. مسئول في حماس: لم يتبق الكثير للوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار    محافظ الغربية يشهد ختام فعاليات الدوري الرياضي للاتحاد العام لمراكز شباب مصر    إصابة 3 أشخاص في اصطدام سيارة بعمود إنارة على الطريق الزراعي في القليوبية    كريم عبدالعزيز يطالب بمنع تصوير جنازة وعزاء والدته    مواصفات سيارة تويوتا كامري ال اي ستاندر 2024    رئيس«كفر الشيخ» يستقبل لجنة تعيين أعضاء تدريس الإيطالية بكلية الألسن    الرئيس الكازاخستاني: الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يمكنه توفير الغذاء لنحو 600 مليون شخص    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    أيهما أفضل حج الفريضة أم رعاية الأم المريضة؟.. «الإفتاء» توضح    متحدث الصحة: لم ترد إلينا معلومات حول سحب لقاح أسترازينيكا من الأسواق العالمية    «لا نعرف شيئًا عنها».. أول رد من «تكوين» على «زجاجة البيرة» في مؤتمرها التأسيسي    مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يكشف عن توصيات منتدى «اسمع واتكلم»    محمود مسلم: الموقف في غزة صعب.. وعلى المجتمع الدولي تحمل مسؤوليته    كوارث خلفتها الأمطار الغزيرة بكينيا ووفاة 238 شخصا في أسبوعين.. ماذا حدث؟    حزب العدل: مستمرون في تجميد عضويتنا بالحركة المدنية.. ولم نحضر اجتماع اليوم    سلمى الشماع: مهرجان بردية للسينما الومضة يحمل اسم عاطف الطيب    موعد وعدد أيام إجازة عيد الأضحى 2024    وزير التعليم يُناقش رسالة ماجستير عن المواطنة الرقمية في جامعة الزقازيق - صور    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    حلقة نقاشية حول تأسيس شركة مساهمة بجامعة قناة السويس    عام المليار جنيه.. مكافآت كأس العالم للأندية تحفز الأهلي في 2025    توت عنخ آمون يتوج ب كأس مصر للسيدات    «البترول» تواصل تسجيل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر مايو 2024    الخارجية الأمريكية: نراجع شحنات أسلحة أخرى لإسرائيل    «اسمع واتكلم».. المحاضرون بمنتدى الأزهر يحذرون الشباب من الاستخدام العشوائي للذكاء الاصطناعي    محافظ أسوان: مشروع متكامل للصرف الصحي ب«عزبة الفرن» بتكلفة 30 مليون جنيه    حسن الرداد يكشف عن انجازات مسيرته الفنية    «التجارية البرازيلية»: مصر تستحوذ على 63% من صادرات الأغذية العربية للبرازيل    لفترة ثانية .. معلومات عن سحر السنباطي أمين المجلس القومي للطفولة والأمومة    السجن 5 سنوات لنائب رئيس جهاز مدينة القاهرة الجديدة بتهمة الرشوة    «فلسطين» تثني على اعتراف جزر البهاما بها كدولة    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد مستشفى الصدر والحميات بالزقازيق    مناقشة تحديات المرأة العاملة في محاضرة لقصور الثقافة بالغربية    رئيسة المنظمة الدولية للهجرة: اللاجئون الروهينجا في بنجلاديش بحاجة إلى ملاجئ آمنة    «تويوتا» تخفض توقعات أرباحها خلال العام المالي الحالي    كريستيانو رونالدو يأمر بضم نجم مانشستر يونايتد لصفوف النصر.. والهلال يترقب    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    المشدد 10 سنوات لطالبين بتهمة سرقة مبلغ مالي من شخص بالإكراه في القليوبية    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    الأرصاد تعلن تفاصيل حالة الجو اليوم.. فيديو    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    اليوم العالمي للمتاحف، قطاع الفنون التشكيلة يعلن فتح أبواب متاحفه بالمجان    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية الجوائز الفرنسية
حقيقة قضية هاري كيبر

كاتب شاب يُدعي ماركوس جولدمان، لاقت روايته الأولي نجاحًا كبيرًا، لكنه نجاح زائل كأي شيء، حيث أخذ الناشر يطالبه برواية جديدة ويهدده بملاحقة قضائية إذا لم يسلِّم الكتاب الجديد في الموعد المحدد. يقرر ماركوس الذهاب إلي »نيو هامبشاير»‬ عند الكاتب الكبير، صديقه القديم وأستاذه في الجامعة »‬هاري كيبر» لعله يجد بعض الإلهام، إلا أنه يعود كما ذهب. وبعد أيام يتلقي اتصال هاتفي يقلب حياته؛ إذ تم القبض علي هاري كيبر بعد أن عثرت الشرطة علي جثة مختفية منذ 33 عامًا في حديقة منزله، لفتاة في سن الخامسة عشر، فيبدأ ماركوس رحلته لإثبات براءة صديقه وكتابة روايته الجديدة.
تحت عنوان »‬حقيقة قضية هاري كيبر» خطَّ الكاتب السويسري »‬جويل ديكر» تلك الأحداث، وهي الرواية التي حصلت علي جائزتي الأكاديمية الفرنسية و»‬جونكور دو لوسين»، بعد صدورها في 2012، وحققت نجاحًا منقطع النظير علي المستويين النقدي والتجاري، ولم تتوقف عن تصدر قوائم البست سيلر، رغم أن مؤلفها لم يكن قد أكمل عامه الثلاثين حين صدرت، وبذلك يكون أصغر فائز بجائزة الأكاديمية الفرنسية.
كتب »‬ديكر» روايته الأولي »‬الأيام الأخيرة لأبانا» في 2010، فحققت نجاحًا متوسطًا ونال عنها جائزة كتَّاب جنيف، ليصل إلي القمة سريعًا مع روايته الثانية تلك، التي تحوَّلت إلي مسلسل تليفزيوني أمريكي عُرض عام 2018، من بطولة »‬باتريك ديمبسي» و»‬بن شنيتزر».
الرواية بصدد الصدور باللغة العربية عن المركز القومي للترجمة قريبًا، بترجمة دينا مندور، رئيس سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب، وقد استغرقت عامين تقريبًا في العمل عليها، وها نحن ننشر في الصفحات التالية الفصل الأول منها.
يوم الاختفاء
(السبت 30 أغسطس 1975)
شرطة النجدة، ما بلاغك؟
ألو.. اسمي ديبورا كوبر وأسكن في سايد كريك لان. أعتقد أني رأيت حالًا فتاة تدخل إلي الغابة ويتبعها رجل.
ما الذي حدث بالضبط؟
لا أعرف! كنت بجوار النافذة، أنظر في اتجاه الغابة، حين رأيت هذه الفتاة تركض بين الأشجار... ورجلًا يتبعها... أعتقد أنها كانت تحاول الهرب منه.
أين هما الآن؟
لم أعد أراهما. إنهما داخل الغابة.
سأرسل لك دوريّة علي الفور سيدتي.
كان هذا هو البلاغ الذي ارتجت له مدينة أورورا، في ولاية هامبشاير. اختفت في ذلك اليوم نولا كليرجان فتاة من المنطقة في الخامسة عشر من عمرها. ولم يتم العثور علي أي أثر لها أبدًا.
استهلال
أكتوبر 2008
(33 عامًا بعد الاختفاء)
كان الكل يتحدث عن الكتاب. لم أعد أستطيع الحركة داخل مدينة مانهاتن في هدوء، ولا أن أمارس رياضة الجري في الشارع دون أن يلتفت إلي المارة قائلين بتعجّب: »‬هيه، إنه جولدمان! الكاتب!»، بل قد يركض بعضهم لبضع خطوات ليلحق بي ويطرح الأسئلة التي تدور في رءوسهم جميعًا: »‬هل ما ذكرته، في كتابك، هو الحقيقة؟ هل فعل هاري كيبر ذلك حقًا؟ وفي مقهي وست فيليدج الذي أرتاده عادة، لم يعد بعض الزبائن يترددون في التحدث إليّ حين اجلس علي طاولتي: »‬أنا أقرأ كتابك الآن، سيد جولدمان، لا أستطيع ان أوقف نفسي! كان الأول جيدًا، والآن هذا ايضًا! هل دفع لك أحدهم حقًا مليون دولار لتكتبه؟ كم عمرك؟ ثلاثون عامًا بالكاد؟ بل لم تكمل ثلاثين؟ وها أنت تكدّس كل هذه الأموال!» حارس البناية التي أسكن فيها والذي كنت أراه يقرأ الرواية بنهمّ بين فتحة باب والفتحة التي تليها، احتجزني طويلًا أمام المصعد بعد أن فرغ من الكتاب ليفصح لي عن مكنونات قلبه: »‬إذن، أهذا ما حدث لنولا كليرجان؟ أي رعب! لكن كيف يمكن أن نصل لهذا الحد يا سيد جولدمان؟ هيه؟ كيف يكون ذلك في الإمكان؟
نيويورك بأكملها مفتونة بكتابي؛ لم يلبث أن ظهر من أسبوعين وتصدّر قوائم المبيعات للعام الحالي في كل القارة الأمريكية الكل يريد معرفة ما حدث في أورورا في عام 1975. يتحدثون عنه في كل مكان: في التليفزيون، الراديو والجرائد. لم أبلغ بعد الثلاثين وأصبحت، بهذا الكتاب ، الذي لا يتعدي كونه كتابي الثاني، الكاتب الأشهر في البلاد.
إن القضية التي ألهبت أمريكا، والتي اتخذتها أساس روايتي، تفجرت منذ بضعة أشهر، في بداية الصيف حين تم العثور علي رفات فتاة اختفت قبل ثلاثة وثلاثين عامًا. هكذا بدأت الأحداث في ولاية نيو هامبشاير كما ستَرِدُ في هذه الصفحات، وبدونها كانت مدينة أورورا ستبقي مجهولة بلا شك بالنسبة لباقي أمريكا.
الجزء الأول
مرض الكتّاب
(ثمانية أشهر قبل ظهور الكتاب)
وسط بقايا الذاكرة
»‬ الفصل الأول، يا ماركوس، أساسي. إذا لم يحبه القراء لن يقرأوا بقية كتابك .
- كيف ستبدأ كتابك إذن؟
لا أعرف يا هاري. أتعتقد أنني أستطيع ذلك يومًا ما؟
تستطيع ماذا؟
أن أكتب كتابًا.
أنا واثق من ذلك»
في بداية عام 2008، أي بعد حوالي عام ونصف من نجاح روايتي الأولي التي جعلتني كالوباء الذي اجتاح الساحة الأدبية الأمريكية، أصابتني أزمة صفحات بيضاء رهيبة. عرض، يبدو أنه منتشر بين الكتاب الذين يحققون نجاحًا فوريًا وكاسحًا. لم يحل المرض فجأة: بل استقر بداخلي علي مهل. كما لو أن عقلي المصاب تجمد شيئًا فشيئًا. مع ظهور الأعراض الأولي، بدا أنني لا أرغب في أن أعيرها اهتمامًا: فكنت أقول لنفسي إن الإلهام سيعود غدًا، أو بعد غد، أو اليوم الذي يليه ربما.. لكن الأيام مرت والأسابيع والشهور دون أن يعود الالهام أبدًا.
مرّ هبوطي نحو الجحيم بثلاث مراحل. الأولي، لا غني عنها لكل سقوط مُدَوّخ، كان هبوطًا صاعقًا: باعت روايتي الأولي 2 مليون نسخة، دفعت بي، وأنا لا أزال في الثامنة عشرة من عمري، إلي مصاف الكتاب الهامّين. كان ذلك في خريف 2006 وبعد بضعة أسابيع أصبح اسمي علمًا: كنت أظهر في كل وسائل الإعلام؛ في التليفزيون والجرائد وعلي أغلفة المجلات. ويظهر وجهي علي اللافتات الإعلانية المضيئة الكبيرة في محطات المترو. وكان نقاد الجرائد اليومية القساة في حالة إجماع علي أن الكاتب الشاب ماركوس جولدمان سيصبح كاتبًا كبيرًا جدًا.
كتاب واحد فقط فتح لي أبواب حياة جديدة هي حياة النجوم الشباب المليونيرات. انتقلت من العيش في منزل والدي في مونتكلير، بولاية نيو جيرسي، لأعيش في شقة فخمة في حي فيلدج في أطراف نيويورك. وتخليت عن سيارتي الفورد المستعملة والتي كنت ثالث مالك لها، لأشتري رانج روفر سوداء براقة جديدة بزجاج معتم، اعتدت ارتياد المطاعم الفاخرة، وتمتعت بخدمات وكيل ادبي يدير أعمالي ويشاهد البيسبول علي شاشة ضخمة في منزلي. استأجرت، علي بعد خطوتين من سنترال بارك، مكتبًا تعمل به سكرتيرة عاشقة بعض الشيء وتدعي دينيس، كانت تحضر القهوة وتصنّف الوثائق الهامة والخطابات التي تصلني.
طوال الستة أشهر التالية لظهور الكتاب، اكتفيت بالاستمتاع بعذوبة حياتي الجديدة. في الصباح، أمرّ علي مكتبي لأتصفح المقالات المتعلقة بكتابي وأقرأ عشرات الرسائل من المعجبين التي أتلقاها يوميًا والتي ترتبها دينيس بعد ذلك في ملفات كبيرة. ثم أذهب، مسرورًا بحالي ومعتقدًا أنني اشتغلت بما يكفي، لأتسكع في شوارع مانهاتن، حيث يطلق المارة صيحاتهم عند مروري. وأكرس بقية النهار للاستفادة من الحقوق الجديدة التي كفلتها لي الشهرة: حق شراء كل ما أرغب به، حق ارتياد استراحة الشخصيات الهامة في حديقة ماديسون سكوير أتابع مباريات رانجرز، حق السير علي السجادات الحمراء مع نجوم الموسيقي الذين كنت أشتري، في وقت سابق، كل اسطواناتهم، حق مواعدة ليديا جلور، البطلة الرئيسية للمسلسل الذي كان يعرض في التليفزيون حينها ويتابعها العالم بأسره. كنت كاتبًا مشهورًا؛ كان لدي الانطباع أنني أمارس أجمل مهنة في العالم. ولأنني كنت أعتقد أن نجاحي سيدوم طويلًا لم أقلق من تنبيهات وكيل أعمالي وناشري بضرورة العودة إلي العمل والبدء في كتابة روايتي الثانية.
بعد عشرة شهور تأكدت أن أرقام المبيعات تتراجع، وباتت رسائل المعجبين أكثر ندرة، وأصبح الناس يستوقفونني بدرجة أقل في الشارع. وسريعًا، بدأ المارة الذين يتعرفون علي يسألونني : »‬سيد جولدمان، ما موضوع كتابك القادم؟ ومتي سيظهر؟» فهمت أن علي أن أبدأه واشتغلت عليه بالفعل: دوّنت أفكارًا علي قصاصات ورسوم تخطيطية و كتبت ملخصات علي جهاز الكمبيوتر. لكن لم يكن هناك شيء جيد. فكرت في أفكار أخري ورسم تخطيطي وملخص آخر، لكن بلا طائل أيضًا. اشتريت كمبيوتر جديدا، مع أمل شرائه بأفكارٍ جيدة وملخص ممتاز، حتي هذا كان بلا جدوي. ثم حاولت أن أغير الطريقة فكنت أحتجز دينيس حتي وقت متأخر من الليل لتسجّل ما اعتقدت أنه عبارات عظيمة، وكلمات جيدة وهجمات روائية استثنائية. ثم تبدو لي، في اليوم التالي، الكلمات فارغة والعبارات عرجاء وهجماتي نكسات. فدخلت إلي المرحلة الثانية من مرضي.
في خريف عام 2007، كان قد مر عام علي ظهور روايتي الأولي، لم أكن قد كتبت سطرًا واحدًا في الكتاب الجديد. لم يعد هناك خطابات لتصنّف. ولم يعد أحد يتعرف علي في الأماكن العامة، كما اختفت الإعلانات التي تحمل صورتي في المكتبات الكبري ببرودواي، فهمت أن المجد زائل، إنه مسخ أسطوري جائع ومن لا يطعمونه يرون أنفسهم وهو يستبدلهم: رجال الساحة السياسية، النجوم الصغار أبطال الحلقات الأخيرة من تليفزيون الواقع، وفِرَق الروك التي ما لبثت أن اخترقت الساحة، استحوذوا جميعهم علي نصيبي من الاهتمام. بالرغم من أنه لم يمر سوي اثني عشر شهرًا بالكاد منذ ظهور كتابي الأول: سِنة من الوقت، قصيرة لدرجة السخرية في نظري، لكنها في مسيرة الإنسانية، تقترب من كونها الأبدية. أثناء تلك السنة، في أمريكا فقط، ولد مليون طفل، ومات مليونا شخص، عشرات آلاف الأشخاص أطلقوا النار علي أنفسهم، ونصف مليون غرقوا في المخدرات، فيما أصبح مليون شخص مليونيرات، وسبعة عشر مليونا آخرين غيروا هواتفهم المحمولة، ومات خمسون ألفًا في حوادث سيارات وفي نفس الظروف جُرح مليونا شخص بين جروح طفيفة وخطيرة. أما أنا، فلم اكتب إلا كتابًا واحدًا.
عرضت علي دار النشر الكبيرة في نيويورك شميد& هانسون مبلغًا مغريًا مقابل نشر روايتي الأولي معلقين علي آمالًا كبيرة والآن هم يطاردون وكيل أعمالي، دوجلاس كلارين، وهو بدوره يتعقبني. قال لي إن الوقت يضغطنا وإنني لابد أن أقدم مخطوطة جديدة حتمًا، وأنا أحاول تهدئته لأهدأ أنا أيضًا، وأؤكد له أنني أتقدم في روايتي الثانية وما من مشكلة في إتمامها. لكن علي الرغم من مرور الساعات وأنا محبوس في مكتبي، ظلت أوراقي بيضاء: ذهب الإلهام دون سابق إنذار ولم يعد. في الليل، لا أستطيع النوم في سريري، أشرد في فكرة أنه سريعًا جدًا، لن يعود لماركوس جولدمان الشهير وجود، قبل أن يكمل أعوامه الثلاثين. أفزعتني هذه الفكرة حتي إنني قررت السفر في أجازة لتتبدل أفكاري: فكرت أن أذهب في قصر بميامي، لنقل إن الغرض هو التزوّد من جديد، مقتنعًا أن الاسترخاء تحت النخيل سيمنحني فرصة كاملة لاستعادة ملكاتي الإبداعية. لكن التفكير في السفر إلي فلوريدا لم يكن إلا محاولة مقنّعَة للهروب، وقد جرّب الفيلسوف »‬سنكا» منذ ألفي عام قبلي الموقف المضني ذاته وعبّر عنه قائلًا: أينما تهربون، تحمل مشاكلكم نفسها في حقائبكم وتلاحقكم أينما تذهبون. كما لو أن، حال وصولي إلي ميامي، سيركض خلفي حامل حقائب كوبي لطيف عند خروجي من المطار ويقول لي:
هل أنت السيد جولدمان؟
نعم.
إذن، هذا يخصك.
ويعطيني مظروفًا به رزمة أوراق.
أهي صفحاتي البيضاء؟
نعم سيد جولدمان. بالتأكيد لن تغادر نيويورك دون أن تأخذها معك!
وهكذا أقضي هذا الشهر في فلوريدا معزولًا، وحيدًا في جناح فندقي مع شياطيني، بائسًا وخائب الرجاء. وجهاز الكمبيوتر مفتوح ليل نهار، والصفحة المعنونة »‬رواية جديدة.doc» تظل عذراء إلي الأبد. عرفت أنني مصاب بمرض واسع الانتشار في الأوساط الأدبية والفنيّة، في الليلة التي عرضت فيها مشروب مارجاريتا علي عازف البيانو في بار الفندق. استقر علي طاولة الشرب، حكي لي أنه طوال حياته لم يكتب سوي أغنية واحدة، لكنها كانت عاصفة كاسحة، وأنه لاقي نجاحًا لم يستطع بعده أن يكتب شيئًا حتي ذلك الوقت، كان يقاوم، وهو محطم وتعيس، بالتعبير عن نجاحات الآخرين من خلال عزفه علي البيانو أمام زبائن الفندق. »‬وقتها، كنت أقيم الحفلات بجنون، وأمامي فاتنات يفقدن صوابهن وأخريات يلقين إلي بسراويلهن الداخلية الرقيقة. كانت سعادة حقيقية». وبعد أن لعق الملح حول كأسه ككلب صغير أضاف : »‬أقسم لك أنها الحقيقة». والأسوأ، أنني كنت أعرف أنها الحقيقة.
المرحلة الثالثة من تعاساتي بدأت فور عودتي إلي نيويورك. في الطائرة التي نقلتني من ميامي، قرأت مقالًا نقديًا عن كاتب شاب صدرت له مؤخرًا رواية أشاد بها النقاد، وعند وصولي إلي مطار لاجارديا، رأيت وجهه علي الاعلانات الكبيرة في صالة استلام الحقائب. الحياة تسخر مني: ليس فقط بأن تنساني، بل والأسوأ بأن تستبدلني. دوجلاس، الذي جاء ليستقبلني في المطار كان في كامل تحفزه: شميد & هانسون ينفد صبرهم، يريدون برهانًا علي أنني أتقدم في العمل وأنني قاربت أن أسلمهم مخطوطة جديدة مكتملة. قال لي ونحن في السيارة التي توصلنا إلي مانهاتن:
نحن في وضع سييء، قل لي إن فلوريدا قد أنعشتك وإن لديك كتابا قارب علي الاكتمال! هناك هذا الكاتب الذي يتحدث عنه الجميع...كتابه سيكون قنبلة أعياد الميلاد. وأنت ماركوس؟ ماذا لديك لأعياد الميلاد؟
أجبت صارخًا ومرعوبًا:
سأركز! ، سأفعلها! سنقيم حملة دعائية ضخمة وسيكون الأمر علي ما يرام! لقد أحب القراء الكتاب الأول وسيحبّون التالي!
مارك، أنت لا تفهم جيدًا، كان علينا أن نفعل ذلك قبل بضعة أشهر. كانت الاستراتيجية أن نعتمد علي نجاحك السابق، ونطعم الجمهور، ونعطيه ما يطلبه. القراء كانوا يريدون ماركوس جولدمان، لكن لأن ماركوس جولدمان استسهل الذهاب في هذا التوقيت إلي فلوريدا، اشتري القراء كتاب كاتب آخر. هل درست قليلًا من الاقتصاد يا ماركوس؟ لقد أصبحت الكتب منتجات قابلة للتبادل، فالناس تريد كتابًا يروق لهم، يريحهم، ويسليهم. وإن لم تكن أنت من سيمنحهم ذلك، سيكون جارك اذن، وأنت ستلائمك سلة المهملات.
كنت مرعوبًا من نبوءات دوجلاس، فركزت في العمل كما لم أفعل من قبل: كنت أبدأ الكتابة في السادسة صباحًا ولا أتوقف قبل التاسعة أو العاشرة مساءً. مرت أيام كاملة في مكتبي لأكتب دون انقطاع، تدفعني نوبة اليأس إلي رسم كلمات وتركيب عبارات وايجاد أفكار للرواية. ولكن لتعاستي، لم أنتج شيئًا ذا قيمة. كانت دينيس تقضي النهار في القلق علي حالتي، كما لو كانت لم يعد لديها ما تفعله سوي هذا، لم يعد هناك ما تتملاه، ولا خطابات لتصنفها، ولا قهوة لتعدها، كانت تقطع الطرقة جيئة وذهابًا وحين لا تعود تطيق كانت تنقر علي بابي وتئن قائلة:
أرجوك يا ماركوس افتح الباب! اخرج من المكتب. اذهب لتتنزه قليلًا في الحديقة. لم تأكل شيئًا اليوم!
وأجيبها صارخًا:
لست جائعًا! لست جائعًا! لن آكل طالما لا يوجد كتاب جديد!
تنتحب تقريبًا:
لا تقل ما يرعبني يا ماركوس، سأذهب لمحل ديلي علي ناصية الشارع وأشتري ساندويتش روست بيف، ما تفضله أنت. حالًا! حالًا!
سمعتها تلتقط حقيبة يدها وتنطلق حتي باب المدخل قبل أن تلقي بنفسها في المصعد، كما لو أن اضطرابها سيغير شيئًا في موقفي. لقد أدركت أخيرًا مدي السوء الذي أصابني: أن أكتب كتابًا دون نجاح مسبق لهو أمر هين، لكن في الوقت الحاضر بعد أن تربّعت علي القمة ، ينبغي الآن أن أؤكد موهبتي وأكرر المسيرة المنهِكَة لأصل للنجاح، أي أن أكتب رواية جيدة، هذا ما اشعر أنني غير قادر عليه. لقد صرعني مرض الكتّاب، وما من أحد يستطيع مساعدتي، إن من أتحدث إليهم بهذا الشأن يقولون لي إن ذلك لا يعني شيئًا، وإنه أمر شائع جدًا، وإن ما لا أستطيع كتابته اليوم سأكتبه غدًا. حاولت ليومين أن أكتب في حجرتي القديمة في منزل والدي، في مونتكلير، حيث كان الهامي في روايتي الأولي. لكن هذه المحاولة باءت بفشل عظيم، كانت أمي علي دراية بهذا خاصة أنها قضت اليومين جالسة إلي جواري، تتفحص شاشة اللاب توب وتكرر العبارة ذاتها: »‬رائع ماركي».
أمي، لم أكتب سطرًا واحدًا!
لكني أشعر انه سيكون رائعًا.
أمي، لو تتركينني وحدي...
لماذا وحدك؟ أتشكو من مغص في بطنك؟ أتعاني من غازات؟ اخرجها أمامي حبيبي. فأنا أمك.
لا يا أمي لست بحاجه لذلك.
هل أنت جائع إذن؟ هل أحضر لك بانكيك؟ أو وافل؟ أو شيئاً مالحاً؟ بيضاً مثلًا؟
لا لست جائعًا.
إذن لماذا تريد أن أتركك؟ أم أنك تحاول أن تقول إن وجود المرأة التي كانت سببًا في وجودك في الحياة يزعجك؟
كلا أنت لا تزعجينني، لكن...
لكن ماذا؟
لا شيء يا أمي.
أنت بحاجة إلي رفيقة ماركي. أتعتقد أنني لا أعرف أنك قطعت علاقتك بتلك الممثلة التليفزيونية؟ ماذا كان اسمها؟
ليديا جلور. علي أي الأحوال، لم نكن سويًا حقًا يا أمي. أقصد إنها كانت مجرد قصة عابرة.
قصة عابرة، قصة عابرة! هذا هو حال الشباب الآن: يدخلون في قصص عابرة وفجأة يجدون أنفسهم في الخمسين صُلعاً وبلا عائلة!
ما علاقة ذلك بأن أكون أصلع يا أمي؟
لا يوجد. ولكن أتجد أنه من الطبيعي أن أعرف أنك مع هذه الفتاة وأنا أطالع مجلة؟ هل يفعل ذلك ابن بأمه؟ تخيل أنني قبل مغادرتك إلي فلوريدا، ذهبت عند شينجيتز، الكوافير وليس الجزار، وهناك كان الجميع ينظرون إلي بتعبيرات غريبة. فسألت عما يحدث، فقالت لي السيدة بيرج، والطاقية تعلو رأسها كالعادة وهي تظهر لي المجلة: إن هناك صورة لك مع هذه ال ليديا جلور في الشارع سويًا، والعنوان يقول إنكما انفصلتما. كل من في الصالون يعرفون أنكما قطعتما علاقتكما وأنا لا أعرف حتي أنك تقابلها! بالتأكيد، لم أرد أن أظهر كبلهاء: فقلت إنها امرأة ساحرة وانها كانت تأتي كثيرًا للعشاء في منزلنا.
أمي، أنا لم أحدثك عنها لأن الأمر لم يكن جديًا. لم تكن امرأة مناسبة، أتفهمينني؟
دائمًا هن غير مناسبات! أنت لا تقابل امرأة مناسبة أبدًا ماركي. تلك هي المشكلة. أتعتقد أن ممثلة تليفزيونية بإمكانها الاعتناء بمنزل؟ أتعرف، لقد قابلت بالأمس مدام ليفي بالمتجر، ابنتها غير مرتبطة أيضًا. ستكون مناسبة جدًا لك، كما أن أسنانها مرصوصة رصًا! أتحب أن أطلب منها المرور الآن؟
لا يا أمي. أنا أحاول أن أعمل.
في هذه اللحظة دق الباب، فقالت أمي:
أعتقد إنهن وصلن.
ماذا يعني: إنهن وصلن؟
السيدة ليفي وابنتها. قلت لهما أن تأتيا لتناول الشاي في الرابعة عصرًا. وها هي الرابعة بالضبط. المرأة التي تأتي في الموعد هي المرأة الجيدة، ألم تحبها بعد؟
دعوتهما لتناول الشاي؟ أخرجيهما من هنا يا أمي، لا أرغب في رؤيتهما! لدي كتاب لأكتبه! أرجوك! أنا لست هنا لألعب. لابد أن أكتب رواية.
حسنًا ماركي، انت بحاجة إلي رفيقة حقًا. رفيقة لتخطبها ثم لتتزوجها. أنت تفكر كثيرًا في الكتب ولا تفكر في الزواج بما يكفي...
لا أحد يدرك صعوبة الموقف الحالي: لابد لي من كتاب جديد، لا لأي سبب سوي شروط العقد التي تربطني بدار النشر. أثناء شهر يناير 2008، استدعاني روي بارنسكي، المدير القوي لدار شميد& هانسون، في مكتبه بالدور 51 في الناطحة التي تقع في شارع لكسينجتون من أجل نقطة نظام حقيقية، صرخ قائلًا: »‬إذن جولدمان، متي سأمسك بيدي مخطوطة كتابك الجديد؟ ينص التعاقد بيننا علي خمسة كتب: عليك أن تعمل سريعًا! لابد من نتيجة! لابد من مبيعات! أنت متأخر عن موعد التسليم! أنت متأخر في كل شيء! هل رأيت هذا الكاتب الذي ظهر كتابه قبل أعياد الميلاد؟ لقد حل محلك عند القراء! وأعلن وكيل أعماله أن روايتة التالية يكاد ينتهي منها. وماذا عنك؟ أنت تخسرنا أموالًا! إذن استيقظ وتدارك الموقف. اخبط خبطتك العظيمة، واكتب لي كتابًا، انقذ نفسك. سأتركك ستة أشهر، سأتركك حتي نهاية شهر يونيو».
ستة أشهر لتأليف كتاب، بينما أنا متحجّر منذ سنة ونصف تقريبًا. مستحيل، بل أسوأ من ذلك، حين حدد لي بارنسكي موعد التسليم لم يخبرني بالعواقب إذا لم أسلم الكتاب في هذا الموعد. تكفّل دوجلاس بالأمر بعد أسبوعين أثناء محادثة دارت بيننا في شقتي. قال لي : »‬لابد أن تكتب، لن تستطيع، أيها البائس، أن تفر منه مجددًا. لقد اتفقت معه علي خمسة كتب! خمسة كتب! بارنسكي غاضب، لن يصبر أكثر من ذلك... قال لي إنه سيتركك حتي شهر يونيو. أتدري ماذا سيحدث إذا لم تلتزم بالمهلة؟ سيفسخ عقدك، وسيتعقبك في ساحات القضاء ويصفّيك حتي النخاع. سيأخذ كل أموالك وبإمكانك، حينها، أن تشطب حياتك الرغدة، شقتك الفاخرة وسيارتك الفارهة: لن يبقي لك شيء. سيمصّون دمك». وهكذا صرت أنا، بعد أن كنت منذ ما يقرب من عام واحد شخصا ينظر إليه باعتباره النجم الجديد للساحة الأدبية في هذه البلاد، صرت يائسًا عظيمًا. لقد أصبحت الأكثر هشاشة في سوق النشر في شمال أمريكا.
الدرس رقم 2: إلي جانب كونه زائلا، للمجد عواقبه. في مساء اليوم الذي حذرني فيه دوجلاس، أمسكت هاتفي وطلبت رقم الشخص الوحيد الذي اعتبرت إنه قادر علي انتشالي من هذا الوضع السييء: إنه هاري كيبر، أستاذي القديم في الجامعة وأحد أهم وأشهر الكتّاب في أمريكا والذي ارتبطت معه بصلة وثيقة منذ ما يقرب من عشرة أعوام، منذ أن كنت تلميذه في جامعة بوروس في ماساتشوستس.
في هذه اللحظة، كان قد مضي أكثر من عام منذ آخر مرة رأيته ووقت طويل منذ أن هاتفته، اتصلت به في منزله في مدينة أورورا بولاية نيو هامبشاير، عند سماع صوتي، قال بصوت ماكر:
أوه ماركوس! أهذا أنت الذي يطلبني؟ لا أصدق!. منذ أن أصبحت نجمًا وانقطعت أخبارك. حاولت الاتصال بك منذ حوالي شهر وردت علي سكرتيرتك قائلة إنه ليس لديك وقت لأي شخص.
أجبت دون مواربة:
الأمر سييء هاري! أعتقد أنني لم أعد كاتبًا.
أجاب سريعًا بجديّة:
ما الذي تتمتم به ماركوس؟
لا أعرف ماذا أكتب، لقد انتهيت؛ صفحات بيضاء لشهور عديدة، أو ربما عام.
انفجر في ضحكة مطمئنة ودافئة.
انسداد فكري يا ماركوس، هذا كل ما في الأمر. إن الصفحات البيضاء سيئة بقدر الأعطال الجنسية المرتبطة بالأداء: إنه ذعر الابداع، وهو ما يجعل عضوك الذكري رخوًا وأنت تتحضّر للهو فوق عربة جر مع إحدي معجباتك الفاتنات وتسيطر عليك رغبة في إيصالها للحظة نشوة لا تقاس إلا بمقياس ريختر. لا تشغل نفسك بكتابة عبقرية، فقط صُفّ الكلمات بجانب بعضها البعض. وستأتي العبقرية من تلقاء نفسها.
اتعتقد؟
بل متأكد. لكن عليك أن تترك قليلًا سهراتك الفاخرة وإخفاقاتك الصغيرة. اكتب، بجدية. أعتقد أنك طبعت ما قلته لك في ذهنك.
لكني أشتغل بصرامة! لا أفعل سوي هذا! وبالرغم من ذلك، لا أصل لشيء.
إذن، إن ما ينقصك هو مناخ موات. نيويورك جميلة جدًا، لكنها صاخبة جدًا جدًا. لماذا لا تأتي هنا، عندي، كما كنت تفعل حين كنت تلميذي؟
إذن، أن ابتعد عن نيويورك وأغيّر جواً. لم أتلق أبدًا دعوة للمنفي ورأيتها وجيهة مثل الآن! أرحل باحثًا عن الهام كتاب جديد في الريف الأمريكي البعيد بصحبة أستاذي القديم: هذا بالضبط ما أحتاجه. بعد أسبوع واحد من مكالمتنا، أي في منتصف شهر فبراير 2008، سأذهب إلي مدينة أورورا بولاية نيو هامبشاير. قبل أشهر قليلة من اندلاع الاحداث الدراماتيكية التي اتهيأ لأرويها علي هذه الصفحات.
قبل الحادثة التي رجّت أمريكا في صيف 2008، لم يكن أحد يتحدث عن أورورا، مدينة صغيرة تقع علي ساحل المحيط، علي بعد ربع ساعة من الحدود مع ولاية ماساتشوستس. يوجد بالشارع الرئيسي صالة سينما، حيث برنامج العروض في تأخر دائم عن مثيله في باقي سينمات أمريكا، وبعض المحلات التجارية ومكتب بريد ومركز للشرطة وحفنة مطاعم، أشهرها مطعم دينر كلاركس، الذي يرتبط اسمه بالعشاء تاريخيًا في المدينة. لا يوجد سوي أحياء هادئة، والمنازل من ألواح خشبية ملونة ذات مداخل لطيفة، تعلوها أسقف حجريّة، تحيطها حدائق مكسوة بالنجيل الكثيف. إنها أمريكا داخل أمريكا، حيث السكان لا يغلقون أبواب منازلهم بالمفاتيح، واحد من تلك الأماكن التي لا نعتقد في وجودها إلا في نيو انجلاند، هادئة حتي يعتقد المرء أنها في منأي عن كل شيء.
أعرف أورورا جيدًا حيث أتيت إليها مرات عدة لأزور هاري عندما كنت تلميذه. يسكن في منزل رائع من الأحجار وأشجار الصنوبر الهائلة، يقع خارج المدينة علي الطريق رقم 1 في اتجاه ولاية ماين ويفترش جزءاً من ساحل المحيط يسمي علي الخرائط جوز كوف. منزل كاتب بحق! يحتضن المحيط بشرفة كبيرة للأيام ذات الطقس المعتدل، بها سلالم تقود إلي الشاطئ مباشرة، يحيطها هدوء بري: غابة ساحلية، ومساحات الحصي والصخور الضخمة المحيطة به، وبساتين السرخس الرطبة، وبعض الممرات للتنزه تمتد من الساحل الرملي. ربما نعتقد أحيانًا أننا في أقاصي العالم إذا لم نكن نعرف أننا علي بُعد بَعض الأميال من الحضارة. ونتخيل بسهولة الكاتب الكهل ينتج أعماله العظيمة جالسًا في هذه الشرفة، مستمدًا إلهامه من تتابع المد والجزر ومن الشمس الغاربة.
تركت نيويورك في 10 فبراير 2008 في عز الصمم الذي أصاب صفحاتي البيضاء والبلاد منشغلة بالمراحل الأولي للانتخابات الرئاسية: قبل عدة أيام، كان يوم الثلاثاء العظيم (الذي تحدد بشكل استثنائي في شهر فبراير بدلًا من شهر مارس، مع توقعات بأن يكون عامًا خارج المنافسة) الذي اختار فيه الحزب الجمهوري السيناتور جون ماكين للترشح باسمه، فيما كانت المعركة لاتزال دائرة في الحزب الديمقراطي بين هيلاري كلينتون وباراك أوباما. قطعت المسافة بالسيارة حتي أورورا دون توقف. كان الشتاء ملبدًا بالسحب وكانت المناظر الطبيعية التي تمر حولي مشبعة باللون الأبيض: كنت أحب ولاية هامبشاير، أحب هدوءها وغاباتها الهائلة، والبرك المغطاة بالزنابق حيث نسبح صيفًا ونتزلج شتاءً، وأحب فكرة أن المواطن لا يدفع ضريبة مبيعات أو ضرائب علي الدخل. واكتشفت أنها كانت ولاية تحررية، لها مقولة تشتهر بها ملصقة علي لوحات السيارات التي تجتازني علي الطريق تقول: عش حرًا أو مت، كانت تلخّص جيدًا مشاعر الحرية التي تسيطر علي في كل مرة من مرات إقامتي في أورورا. كما أتذكر أنه في هذا اليوم عند وصولي منزل هاري بعد ظهيرة يوم بارد وضبابي، شعرت بارتياح داخلي. كان ينتظرني تحت سقيفة منزله متدثّرًا بمعطف شتوي كبير. نزلت من سيارتي وجاء لمقابلتي باسطًا يديه علي كتفي تعلو وجهه ابتسامة عريضة مرحّبة.
ماذا أصابك يا ماركوس؟
لا أعرف هاري...
تعال تعال، طالما كنت شابًا حساسًا جدًا.
وقبل حتي أن أفرغ محتويات حقائبي، جلسنا في الصالون لنتناقش قليلًا. حضر لنا القهوة. كانت بالموقد نار ملتهبة، كان الجو معتدلًا في الداخل ورأيت عبر النافذة الزجاجية الكبيرة المحيط هائجًا بفعل الرياح الثلجية والثلوج الرطبة الساقطة فوق الصخور.
تمتمت:
كنت قد نسيت كم هو جميل المكان هنا!
أومأ قائلًا:
ستري يا صغيري ماركوس، سأعتني بك جيدًا، ستمنحنا رواية جديدة تكون عاصفة مدوية، لا تحزن أبدًا، كل الكتّاب الجيدوين يمرون بمثل تلك الأوقات.
كان يبدو عليه هذا الانطباع المطمئن والواثق الذي أعرفه جيدًا، لم أره يومًا مترددًا: يتمتع بكاريزما، واثق من نفسه وكان مجرّد حضوره يبعث قوّة تلقائيّة. كان في السابعة والستين من عمره ومحتفظًا بهيئة مرتّبة، يضع فوق رأسه شعرًا فضيًا مستعارًا، عريض المنكبين، ذا جسد قوي بما يشهد علي مسيرته الطويلة كملاكم. فقد كان ملاكمًا، ومن خلال تلك الرياضة، التي مارستها بإصرار، تآلفنا في جامعة بوروس.
كانت الصلة التي جمعتني بهاري قوية للغاية، وهو ما سأرويه لاحقًا في هذه الصفحات. تعرفت عليه في عام 1998، حين التحقت بجامعة بوروس بولاية ماساتشوستس. كان في السابعة والخمسين من عمره آنذاك. وكان قد قضي خمسة عشر عامًا من العصر الذهبي لقسم الأدب في هذه الجامعة الإقليمية المتواضعة الهادئة والمزدحمة بطلاب لطفاء ومهذبين. قبل ذلك كنت أعرف هاري كيبر الكاتب الكبير اسمًا فقط مثل باقي قرائه: في بوروس التقيت به لقاء قصيرًا جدًا، رغم أنه هو من سيعلمني كيف أصير كاتبًا وأنه سيصبح واحد من أقرب أصدقائي رغم فارق السن بيننا. كان قد عرف شهرة عريضة في منتصف سنوات السبعينيات مع ظهور كتابه الثاني أصول الشر الذي باع خمسة عشر مليون نسخة ونال عنه جائزتي الناشيونال بوك كريتيك سيركل، وناشيونال بوك، أي الجائزتين الأدبيتين الأكثر أهمية في أمريكا. من وقتها وهو ينشر كتبًا بإيقاع منتظم وله مقال شهري ثابت في جريدة البوسطن جلوب يتابعه الكثيرون. كان أحد أبرز رموز الانستلجنسيا الأمريكية. كان يلقي المحاضرات ويُطلب كثيرًا في الأحداث الثقافية المختلفة، إذ يٌعتدّ برأيه في الأمور السياسية. كان رجلًا يحظي باحترام كبير وأحد أسباب فخر الأمة؛ إذ لم تكن أمريكا لتنجب أفضل من ذلك. كنت آمل وأنا ذاهب لقضاء بضعة أسابيع في بيته أن ينجح في إعادتي كاتبا مرة أخري وأن يعلّمني كيف أتجاوز عثرة الصفحات البيضاء. وهنا يجب أن أوضح أنه إذا كان هاري يجد موقفي صعبًا فهو لا يعتبره غير طبيعي في الوقت ذاته. فقد شرح لي ذات مرة أنه »‬أحيانًا يقابل الكُتّاب هذه الفجوات، وهنا تكمن مخاطر المهنة. اعمل، وستري، ستحلّ العقدة من تلقاء نفسها». أجلسني في غرفة مكتبه في الطابق الأرضي، حيث كتب، من قبل، كل مؤلفاته ومنهما أصول الشر، قضيت ساعات طويلة أحاول الكتابة بدوري، لكنني ظللت مأخوذًا بالمحيط والثلوج علي الجانب الآخر من النافذة. حين كان يأتي ليحضر لي فنجانًا من القهوة أو شيئًا لآكله، كان ينظر إلي وجهي اليائس ويحاول أن يرفع من معنوياتي، قال لي في أحد الصباحات:
لا داعي لهذا اليأس ماركوس، من يراك يعتقد أنك علي وشك الموت.
هو كذلك، تقريبًا.
دعنا نقلق بسبب مسيرة العالم المضطربة، بسبب الحرب في العراق، وليس بسبب كتب بائسة... هذا مبكراً جدًا! أنت مثير للشفقة، أتعرف! أنت تفعل كل هذا لأنك لا تستطيع كتابة بضعة أسطر. فلتنظر للأمور علي حقيقتها: لقد كتبت بالفعل كتابا رائعا، وأصبحت ثريًا ومشهورًا. وكتابك الثاني يخرج من رأسك ببعض الصعوبة. ما من شيء غريب أو مقلق في هذا الأمر...
ولكن ماذا عنك... ألم تعان أبدًا من هذه المشكلة؟
انفجر في ضحكة مجلجلة وقال:
الصفحات البيضاء؟ هل تمزح؟ أكثر مما يمكن أن تتخيل يا صديقي المسكين!
قال لي ناشري إنني لو لم أستطع تأليف كتاب جديد الآن، فإنني أكون انتهيت.
ألم تعرف بعد ماذا يعني »‬ناشر»؟ إنه مشروع كاتب غير موفق، يمتلك أبوه ما يكفي من المال ليجعله يشتري مواهب الكتّاب الآخرين. ستري يا ماركوس كيف ستسير الأمور سريعًا في طريقها المرسوم. فأمامك مسيرة مهنية عظيمة، تتذكر كم كان كتابك الأول عظيمًا، وسيكون الثاني أفضل. لا تشغل بالك، سأساعدك علي استعادة الإلهام.
لا أستطيع القول إن إقامتي الهادئة في أورورا أعادت لي الإلهام، إلا أنني شعرت فيها بتحسّن بلا شك. وكذلك هاري، الذي غالبًا ما يشعر أنه وحيدٌ، كما أعرفه جيدًا: فهو يعيش بلا عائلة وبلا الكثير من وسائل التسلية. قضينا أيامًا سعيدة، في الحقيقة أيامنا الأخيرة سويًا كانت سعيدة بالفعل. قضيناها في تنزهات طويلة علي ساحل المحيط، في الاستماع من جديد لأسطوانات الأوبرا العظيمة، في تتبع آثار التزلج العميقة علي الجليد، في حضور كل الأحداث الثقافية المحلية وفي تنظيم حملات استكشافية لمتاجر الإقليم، في البحث عن المقانق الصغيرة التي تباع لصالح قدامي المحاربين في الجيش الأمريكي، والمولع به هاري. كما كنا نتردد كثيرًا علي مطعم كلاركس لتناول الغداء أو القهوة ونقضي به ما بعد الظهيرة ونتندر كما كنا نفعل حين كنت تلميذه. الجميع في أورورا يعرفون هاري ويحترمونه، وباتوا، من حينها، يعرفونني أنا الآخر، وأكثر من تآلفت معهم كانا اثنين، جيني داون، صاحبة مطعم كلاركس، وإرني بينكاس، أمين المكتبة الأهلية المتطوع، وهو قريب جدًا لهاري، كان يأتي أحيانًا إلي جوز كوف في آخر النهار يشرب بعض الويسكي. كنت أذهب إلي المكتبة صباح كل يوم لأقرأ جريدة النيويورك تايمز. لاحظت، في اليوم الأول، أن ارني يضع نسخة من كتابي في الواجهة بشكل واضح. وأشار إلي بها بكل فخر قائلًا:
»‬ أتري ماركوس، كتابك معروض في أهم مكان. انه الكتاب الأكثر استعارة طوال العام الأخير. متي سيصدر كتابك القادم؟
في الحقيقة، أجد صعوبة في أن أبدأه. ولهذا جئت إلي هنا.
لا تشغل بالك، ستجد فكرة رائعة، أنا واثق. ستجد شيئًا مثيرًا.
مثل ماذا؟
لا أعرف تحديدًا، فأنت الكاتب. لكن لابد أن تجد موضوعًا يلهب الجماهير».
في مطعم كلاركس، يشغل هاري الطاولة ذاتها منذ ثلاثة وثلاثين عامًا، وهي رقم 17، ولصقت عليها جيني لوحة معدنية صغيرة منقوشا عليها:
علي هذه الطاولة كتب الكاتب الكبير هاري كيبر،
في صيف 1975، روايته الشهيرة أصول الشر.
كنت أعرف هذه اللوحة دائمًا، لكنني لم أعرها اهتمامًا، أثناء هذه الإقامة فقط أثارت انتباهي عن قرب، وتأملتها طويلًا. هذه الكلمات المتتابعة المحفورة وسط المعدن، سريعًا ما أسرتني، وأنا الجالس علي تلك الطاولة الخشبية البائسة اللزجة من أثر الدهون وعصير خشب القبقب. في هذا المطعم بتلك المدينة الصغيرة في ولاية نيوهامبشاير كتب هاري عمله الأعظم الهائل ، الذي جعل منه أسطورة أدبية. كيف جاء بهذا الالهام؟ أريد أن أجلس علي هذه الطاولة وتهاجمني الملكة الإبداعية. وجلست عليها بالفعل طوال نهارين مكرسين للكتابة، حاملًا أوراقي وأقلامي، لكن بلا طائل. سألت جيني في نهاية الأمر:
إذن، أكان يجلس علي هذه الطاولة ويكتب؟
هزت رأسها وقالت:
طوال النهار يا ماركوس، بلا توقف، كان ذلك في صيف 1975 ، أتذكر جيدًا.
شعرت في داخلي بنوع من الغليان المخيف؛ أريد أنا أيضًا أن أكتب عملًا عظيمًا ويصبح مرجعًا. انتبه هاري بعد ما يقرب من شهر منذ بداية إقامتي في أورورا أنني لم أخط سطرًا واحدًا. هذا المشهد دار في غرفة المكتب بمنزل هاري وأنا أنتظر الفرج الإلهي، حينها دخل هو بمئزر نسائي، حاملًا حلوي أعدها لتوّه. وسألني:
هل تتقدم؟
أكتب شيئًا خارقا، (قلت له هذه العبارة وأنا أحمل رزمة الأوراق التي جاء بها إلي الخادم الكوبي منذ ثلاثة أشهر).
ترك الصينية التي كان يحملها، وأخذ ينظر في الأوراق إلي أن أدرك أنها ليست سوي صفحات بيضاء.
لم تكتب شيئًا؟ طوال الثلاثة أسابيع التي قضيتها هنا، لم تكتب شيئًا؟
رددت:
لا شيء! لا شيء! لا شيء يصلح! سوي بعض أفكار لروايات سيئة.
لكن بالله عليك يا ماركوس، ماذا تريد أن تكتب إذا لم تكن رواية؟
رددت دون أن أفكر:
عملا عظيماً! أريد أن أكتب عملًا عظيمًا!
عملًا عظيمًا؟
نعم، أريد أن أكتب رواية عظيمة، بأفكار عظيمة أرغب أن أؤلف كتابًا يبقي في العقول.
تأملني هاري للحظة ثم انفجر في الضحك:
طموحك اللامحدود يستفزني يا ماركوس، وقد قلت لك ذلك كثيرًا، وانا مقتنع بذلك منذ قابلتك. لكن أتريد أن تعرف ما هي مشكلتك: أنك متعجل للغاية! كم عمرك بالضبط؟
سأكمل قريبًا ثلاثين عامًا.
لم تكمل الثلاثين عامًا بعد وتريد أن تقف بين سول بيلو وآرثر ميللر؟ سيأتي المجد، لا تكون متعجلًا إلي هذ الدرجة. إنني أبلغ من العمر سبعة وستين عامًا وأشعر بالذعر فالوقت يمر سريعُا، وكل عام يمر هو عام لا يمكن استعادته أو اللحاق به. ماذا تعتقد يا ماركوس؟ ما الذي تنتظره من هذا الكتاب الثاني؟ مسيرة مهنية؟ المسيرة المهنية تَبني يا ماركوس، وكتابة رواية عظيمة لا تحتاج لأفكار عظيمة: أكتف بأن تكون ذاتك وستصل بالتأكيد، أنني لا أقلق بشأنك. أنني أدرّس الأدب لأكثر من عشرين عامًا، سنوات طويلة مرت وأنت أكثر من قابلتهم ذكاءًا.
أشكرك.
لا تشكرني، إنها الحقيقة ببساطة. ولكن لا تأت لتنوح هنا كفأر مسكين لأنك لم تفز بجائزة نوبل بعد! الروايات العظيمة، جائزة نوبل! كله كلام فارغ!
لكن كيف أنجزته يا هاري؟ أعني أصول الشر، الصادر في 1976، إنه عمل عظيم بالفعل! وهو ثاني أعمالك فقط... كيف فعلتها؟ كيف كتبت عملًا عظيمًا؟
ابتسم في حزن وقال:
ماركوس: الأعمال العظيمة لا تُكتب. إنها توجد من تلقاء نفسها. ثم إنه، من وجهة نظر الكثيرين، يعد هو العمل الوحيد الذي كتبته... أؤكد لك، لم يلاق أي من الكتب الأخري التي تلته النجاح ذاته. وحين يتحدث الناس عني، يتذكرون فورًا أصول الشر ولا يذكرون غيره تقريبًا، وإنه لأمر محزن لأنه في اعتقادي إذا قيل إنني في عمر الخامسة والثلاثين قد بلغت قمة المجد في مسيرتي المهنية فمن الأفضل أن ألقي بنفسي في المحيط! لا تتعجل يا صديقي!
هل تندم علي هذا الكتاب؟
ربما...قليلًا...لا أدري... فالندم مفهوم لا أحبه! لأنه يعني أننا لم نستطع تحمل مسئولية ما كنّا!
ماذا علي أن أفعل الآن؟
ما كنت تفعله دائمًا نحو الأفضل: أن تكتب. وإذا كان لي أن أنصحك ماركوس فنصيحتي ألا تفعل مثلي. فنحن نشبه بعضنا البعض بشكل هائل، لقد نبّهتك الآن، فلا تكرر نفس الأخطاء التي ارتكبتها.
أي أخطاء؟
أنا أيضًا، أردت بالقطع في الصيف الذي وصلت فيه إلي هنا عام 1975، أن أكتب عملًا عظيمًا، كنت أسيرًا للفكرة والرغبة في أن أصبح كاتبًا كبيرًا.
وهل نجحت في ذلك؟
أنت لا تفهم: الآن أنا بالفعل كاتبٌ كبيرٌ كما تقول، لكنني أعيش وحدي في هذا المنزل. حياتي فارغة يا ماركوس. لا تفعل مثلي... لا تترك طموحك يدفنك، وإلا ستعيش بقلب وحيد وقلم حزين. ما السبب في أنك بلا حبيبة؟
ليس لدي حبيبة لأنني لم أجد الفتاة التي تعجبني حقًا.
أعتقد انك تتعامل مع العلاقة العاطفية كما تتعامل مع شغلك؛ إما الذروة المتقدة أو العدم. ابحث عن فتاة جيدة واترك لها الفرصة. وافعل الشيء ذاته مع كتابك: اعط لنفسك فرصة أنت أيضًا! اعط فرصة لحياتك! أتعرف ما هو انشغالي الرئيسي؟ إطعام النوارس. أجمع الخبز الجاف في هذه العلبة المعدنية الموجودة في المطبخ، المنقوش عليها عبارة »‬ ذكري روكلاند، ماين» وأعطيها للنوارس، لا يجب أن تكتب طوال الوقت...
بالرغم من النصائح التي جاد بها علي هاري، إلا أنني بقيت مهووسًا بفكرتي: كيف استطاع وهو في مثل سني أن يأتيه الإلهام: لحظة العبقرية تلك التي جعلته يكتب روايته أصول الشر؟ كان هذا السؤال يتمكّن مني أكثر فأكثر. وبما أن هاري قد أجلسني في غرفة مكتبه فسمحت لنفسي أن أتجسس قليلًا ولم أكن أتصور ما سأكتشفه. الأمر بدأ حين فتحت درجا لأبحث عن قلم فوجدت كراسة مكتوبا فيها بخط اليد وبعض أوراق مبعثرة: كانت نسخا بخط اليدّ لكتابات هاري: شعرت بإثارة بالغة لأنها كانت فرصة لفهم كيف يعمل هاري، والتحقق مما إذا كانت كراساته تحوي الكثير من الشطب أم أن الإلهام كان يسقط عليه دفعة واحدة. رحت أكتشف مكتبته، بنهم شديد، بحثًا عن دفاتر أخري. كان لابد من انتظار أن يخرج هاري من المنزل، كي تخلو لي الساحة، وكان يوم الخميس هو اليوم الذي يذهب فيه إلي الجامعة في بوروس للتدريس. يغادر باكرًا ولا يعود إلا في نهاية النهار. إذن كنا في يوم الخميس 6 مارس 2008 ووقع حدث قررت أن أنساه فورًا، اكتشفت أن هاري كان علي علاقة بفتاة في الخامسة عشرة من عمرها فيما كان يبلغ هو من العمر أربعة وثلاثين عامًا. حدث ذلك في منتصف عام 1975.
اكتشفت سره وأنا أفتش، علي راحتي، في أرفف وأدراج مكتبه، وجدت علبة خشبية كبيرة، مخبّاًة وراء كتب مصفوفه، مغلقة بغطاء ذي مفصل، شعرت أن بها كماً كبيراً من الورق، ربما كان مخطوطة أصول الشر. أمسكت العلبة وفتحتها، ويا لدهشتي مما وجدته! لم يكن هناك مخطوطة بل مجموعة من الصور ومقالات من جرائد. الصور كانت لهاري في شبابه، سنوات الثلاثينيات المبهرة، كان أنيقًا ومتباه وبجانبه فتاة. كان هناك أربعة أو خمسة ملصقات وكانت أوضح من أي شيء. علي واحدة منهما نري هاري علي الشاطيء، عاري الصدر، ببشرة برونزية ومفتول العضلات، يضم تلك الفتاة إلي صدره، وهي ترتدي نظارات شمسية مثبتة في شعرها الأشقر لتمسك به يطير شعرها علي وجنتها. وعلي ظهر الصورة وجدت هذه العبارة: نولا وأنا، مارتاس فينيارد، آخر شهر يوليو 1975. في هذه اللحظة وأنا مفتون باكتشافاتي لم أسمع صوت هاري الذي عاد مبكرًا جدًا عن موعده من الجامعة. لم ألاحظ صرير إطارات سيارته الكورفيت علي حجارة طريق الجوز كوف، ولا صوته حين دخل المنزل. لم أسمع شيئًا، إذ وجدت خطابًا بلا تاريخ داخل العلبة. كانت كتابة طفولية علي ورقة جميلة مكتوب بها:
لا تشغل بالك يا هاري، لا تنشغل بي ، سأدبر أمري
لأقابلك هناك. انتظرني في الغرفة رقم 8، أحب هذا الرقم
إنه رقمي المفضل. انتظرني في تلك الغرفة في الساعة
السابعة مساءً. ثم سنرحل إلي الأبد
أحبك كثيرًا، قبلاتي
نولا
من إذن نولا تلك؟ أخذت أقلّب في المقالات وقلبي يخفق. جميعها تشير إلي الاختفاء الغريب لنولا كليرجن ، في مساء أحد أيام شهر أغسطس 1975. ونولا الموجودة في صور الجرائد هي نفسها نولا الموجودة في الصور الخاصة بهاري. في هذه اللحظة تحديدًا دخل هاري إلي غرفة مكتبه حاملًا صينية بها فنجانا قهوة وبعض البسكويت. حين دفع الباب بقدمه ، وجدني جالسًا علي السجادة ومحتويات الصندوق السري أمامي.
ما الذي تفعله يا ماركوس. صرخ في وجهي. هل... هل تتجسس؟ أنا أدعوك في منزلي وأنت تفتش في أغراضي؟ أي نوع من الأصدقاء أنت؟
انطلقت في تبريرات بغيضة:
لقد وقعت عليه هاري. وجدت هذا الصندوق بالصدفة. لم يكن يجب علي أن أفتحه... أنا آسف.
لم يكن من حقك أن تفعل ذلك أبدًا، بأي حق؟
اقتلع الصور من بين يدي ، وأخذ يلملم المقالات علي عجل ورمي بكل شيء في الصندوق وحمله معه إلي غرفته وأغلقها علي نفسه. لم أره أبدًا في حياتي في هذه الحالة. ولا أستطيع الحكم إذا كانت تلك الحالة بدافع من رعب أم من غضب. أخذت، عبر الباب المغلق، أتفوه بأعذار شارحًا له أنني لم أرغب في جرحه وأنني وقعت علي الصندوق بالصدفة، لكن لم يؤثّر فيه شيء مما أقول. لم يخرج من غرفته إلا بعد ساعتين ونزل مباشرة إلي غرفة الصالون ليحتسي بعض الويسكي. حين بدا لي أنه هدأ بعض الشيء، توجهت نحوه.
هاري...من هي تلك الفتاة؟ سألته برفق.
أخفض عينيه..
نولا
من هي نولا؟
لا تسألني من هي نولا. من فضلك.
هاري، من هي نولا؟ كررت سؤالي.
هز رأسه وقال:
كنت أحبها يا ماركوس. أحبها كثيرًا.
لكن لماذا لم تحدثني عنها أبدًا؟
الأمر معقد.
لا شيء معقد بين الأصدقاء.
هز كتفيه وقال:
ما وجدته في هذه الصور أكثر مما سأقوله... في عام 1975، عند وصولي أورورا وقعت في غرام تلك الفتاة التي لم تكن تبلغ أكثر من خمسة عشر عامًا. كانت تدعي نولا وهي امرأة حياتي كلها.
صمتنا قليلًا، عدت للسؤال بعدها:
ما الذي حدث لنولا؟
قصة مقيتة يا ماركوس. اختفت. في إحدي ليالي شهر أغسطس عام 1975. بعد أن رأتها إحدي السيدات في الجوار. إذا كنت فتحت الصندوق فقد رأيت بكل تأكيد المقالات، لم يتم العثور عليها، لا أحد يعلم ما الذي حدث لها.
أي رعب!
أخذ يهز رأسه طويلًا، ثم قال:
أتعرف، لقد غيّرت نولا حياتي. لم يكن يهمني أن أكون هاري كيبر العظيم ، والكاتب ذائع الصيت. لا يهم المجد، والمال ومصيري العظيم لو كنت استطعت الاحتفاظ بها. كل ما قمت به منذ فقدها لم يستطع أن يعطي حياتي معني كما حدث في الصيف الذي قضيته معها.
كانت هي المرة الأولي التي أري فيها هاري مهزومًا إلي هذا الحد. بعد أن أشاح بوجهه عني لحظات، عاد وأضاف:
ماركوس... لا أحد يعلم بهذه القصة أبدًا. من الآن أنت الوحيد الذي تعرفها. وعليك أن تحفظ السر.
بالتأكيد.
عدني!
أعدك يا هاري. سيكون سرنا.
إذا عرف أحد هنا في أورورا أنني كنت علي علاقة بنولا كليرجن فسيعني ذلك نهايتي...
بإمكانك أن تثق بي يا هاري.
كان ذلك كل ما عرفته عن نولا كليرجن، لم نتكلم عنها مجددًا، ولا عن الصندوق. وقررت أن أدفن للأبد هذه الحلقة في مخلفات الذاكرة، ولم أشكّ مطلقًا أن قصة نولا الغرائبية، ستبزغ من جديد في حياتنا، نتيجة تلاحق بعض الأحداث، بعد ذلك ببضعة أشهر.
عدت إلي نيويورك في نهاية شهر مارس بعد ستة أسابيع قضيتها في أورورا لم تعطني الفرصة لميلاد روايتي الجديدة العظيمة. كنت قد تأخرت ثلاثة أشهر عن الموعد النهائي الذي حدده بارنسكي وأيقنت أنني لن أستطع إنقاذ مسيرتي المهنية. كنت أحرق أجنحتي، وكنت رسميًا في مرحلة الانهيار، كنت الأكثر تعاسة والأكثر فشلًا في الإنتاج بين الكتاب الأعلام في نيويورك. مرت الأسابيع: وأنا أقضي معظم وقتي في ترتيب فشلي. وجدت عملًا آخر لدنيس، واتصلت ببعض المحامين الذين سأحتاجهم في الوقت الذي سيقرر فيه شميد &هانسون ملاحقتي في ساحات القضاء، وجهزت قائمة بالأشياء التي أحتاجها بشدة لأنقلها وأخفيها عند والدي قبل هجوم رجال الشرطة علي منزلي. مع بداية شهر يونيو، الشهر المصيري، شهر الانتقال حتي بدأت أعد الأيام الباقية حتي موتي الأدبي: لم يتبق سوي ثلاثين يومًا بالكاد، ثم استدعاء في مكتب بارنسكي ثم المقصلة. بدأ العد التنازلي. ولم أتصور أبدًا أن حدثًا دراماتيكيًا سيغير الموازين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.