من الطبيعى أن يفجر الوضع الذى تعيشه مصر الآن، أكثر من سؤال حول مسار ومصير التجربة الديموقراطية، وخاصة بعد ثورة قادها الشباب، وضحى من أجلها بروحه وجسده وأيدها غالبية قطاعات الشعب بعضهم من اليوم الأول، وربما من قبله، وبعضهم بعد ما تأكد له أن النظام على وشك الانهيار، لا بأس، المهم الآن هو أن ما يدور من تفاعلات وجدل وجدال يستلزم طرح كل شىء للنقاش والتفكير بصوت عال وجماعى، وبصراحة تامة، فالقضية هى مستقبل وطن وأمة وشعب وأجيال صاعدة فى عالم لا يرحم المتخالفين والمتصارعين ولا يحترم سوى الأقوياء. وربما السؤال الأهم مطروح من واقع أن الإخوان المسلمين صاروا فى موقع المسئولية -وهذا حقهم رغم أن الانتخابات التى أوصلتهم لما هم فيه لم تكن قائمة على وعى ومصارحة، بل على مخاتلة ومخادعة برفع شعارات دينية، اعتمادا على أمية سائدة وعدم معرفة ثقافية وعاطفة دينية مشبوبة وكراهية شديدة، لما كان قائما أيام المخلوع- أقول بات واقعا أن الإخوان المسلمين يقودون الآن نوعا من التحالف يضم إسلاميين وغير إسلاميين إلى حين، بهدف بناء المجتمع والدولة الإسلامية – كما يقولون ويعلنون – قال خيرت الشاطر فى جريدة المصرى اليوم فى 13/4/2011 ( نحن مستمرون فى بناء الفرد والبيت والمجتمع المسلم ونستعد للحكومة الإسلامية كمرحلة تالية لتطبيق نهضة مجتمعية على أساس مرجعية إسلامية، حتى الوصول إلى مرحلة سيادة العالم وعودة الدولة الإسلامية )، وواضح من سياق النص أن (نحن) هذه، يقصد بها الإخوان المسلمين، ولن ندخل فى تحليل أكثر من ذلك لتلك العبارات التى تتجاوز كل ما هو مألوف ومعقول فى العمل السياسى. هم يطرحون وعاءهم التنظيمى كحزب سياسى مختف، لقيادة تحالف من نوع ما، وهذا يعنى أن ما هو قائم أو ما كان قائما من وجهة نظرهم من مؤسسات دستورية وهياكل وقوانين وقيم وعلاقات وحكومة ومعارضة وغيرها، كل ذلك إن لم يكن معاديا للإسلام فهو على الأقل لا ينتسب إلى الإسلام الصحيح كما يرونه أو كما يفهمون الإسلام الإخوانى. وهنا يصبح من حق المواطنين كافة مسلمين وغير مسلمين أن يراجعوا هذا الحزب الجديد، والذى دانت له السلطة فى الشورى ولجنة وضع الدستور والحكومة ورياسة الجمهورية، بات من حق المواطنين كافة أن يطالبوا الحزب الذى سيطر وتحكم بأن يطرح للجدل والحوار نظريته وبرنامجه وأهدافه الاستراتيجية ووسائله، لا أن يفرض على الناس ما يرونه هم، طالما ارتضى والتزم بأن يمارس العمل السياسى والديموقراطى بآلياته وعليه أى الحزب الإخوانى، أن يفهم أن مناقشة كل ما يطرحه هو عمل طبيعى، لأن ما يطرحه هو من صنع جماعة بشرية بهدف حل مشاكل المجتمع فى ظروف تاريخية واجتماعية وعالمية محددة، رغم ما يكون قد استلهم نظريته وبرنامجه وأهدافه من تعاليم دينية أو كتب سماوية بأقل أو أكثر من غيره. وبالمنظور السياسى والاجتماعى فإن قداسة هذه التعاليم والكتب السماوية لا تمتد إلى أفكار وبرامج أى حزب حتى وإن رفع شعارات إسلامية وإلا كان ذلك يعنى إضفاء قدسية خاصة على جماعة من البشر ينتمون لحزب معين دون غيرهم من المواطنين الآخرين، سواء أكانوا مستقلين أو منضمين إلى أحزاب أخرى لها منطلقات وأفكار وأهداف أخرى. إن إضفاء قداسة دينية على برنامج حزب سياسى، يتناقض بشكل صارخ وجذرى مع أبسط مبادىء الديموقراطية ونظام تعدد الأحزاب الذى ارتضاه الإخوان وكونوا حزبا على أساسه ليخوضوا به غمار الممارسة السياسية ومن شأن ذلك أن يدفع البعض الذى نشأ وشب ونما وترعرع على قدسية أفكار جماعته وعلى السمع والطاعة لقياداته، يدفعهم إلى إهمال من يعارضونهم والاستعلاء عليهم وإنكار وجودهم وإلى تكفير من يتجرأ على مراجعتهم بل وإهدار دمهم باعتبار أنهم يعادون الله ورسوله. وعلى مدى التاريخ الإنسانى، فلقد أكدت التجارب السياسية أنه فى كل مرة يتم فيها إضفاء القداسة الدينية على حاكم أو حكومة أو حزب أو جماعة، سواء فى بلاد تدين بالإسلام أو لا تدين بأى دين، فإن الأمر ينتهى إلى قيام طاغوت دكتاتور لا حدود لاستبداده وتخلفه واستهتاره بالبلاد والعباد أو إلى حرب أهلية مدمرة تأكل الأخضر واليابس وتحطم الوطن والمواطنين. وفى أدبيات الإخوان المحفوظة وثائقيا ما كتبه الأستاذ مصطفى مشهور فى جريدة الشعب (31/3/1987) موجها مقاله حرفيا إلى من يغيظهم التحالف الإسلامى وقتها مع حزب الوفدد وهو نفس ما يقال الآن لمن يخالفون الإخوان بقولهم موتوا بغيظكم... قال الأستاذ مشهور: (أما هؤلاء الذين أثار دخول الإخوان الانتخابات مشاعر الغيظ والحقد فى قلوبهم وزاد من غيظهم ما لمسوه من تجاوب الشعب مع هذا التحالف الإسلامى فأنا أقول لهم، هونوا على أنفسكم ووفروا جهودكم فإنكم بما تقولونه أو تفعلونه ضد الإخوان لن ينال منهم لأنكم لا تحاربون أشخاصهم ولكن تحاربون الله ودعوة الله فى أشخاصهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). إن هذا النص هو مثال ونموذج لتلك الفلسفة الاستبدادية السياسية التى قامت عليها عصور الاستبداد والقمع ومحاكم التفتيش فى التاريخ الإنسانى قبل وبعد الإسلام باسم نظرية الحكم على أساس التفويض الإلهى فالحاكم يمثل الله كما يتصورون. وهى النظرية التى سقطت بتضحيات فادحة، وبنضال طويل للبشر مسلمين وغير مسلمين، من أجل الديموقراطية وحرية العقيدة وحكم الشعب لنفسه، فالحاكم حتى وإن كانت له خلفية دينية فهى خلفية كما يفهمها هو وليست هى الدين، فالدين شىء والتدين شىء آخر. وإذا كان من حق الإخوان المسلمين أن يختاروا ما يشاءون من صيغ تنظيرية وتكتيكية وفكرية لممارستهم السياسية فلا يجب أن يتم ذلك فى الغرف المغلقة، أو أن يعلن للناس كقرارات علوية لا راد لها، لكن من حق كل مواطن دينيا ومدنيا أن ينكر على الإخوان أو غيرهم من الجماعات التى ترفع الإسلام راية اتهامهم للغير ممن يعارضونهم بأنهم يحاربون الله ورسوله. فالمشكلة الحالية أن هناك جماعة مغلقة وعنصرية، تعقد اجتماعاتها فى غرف مغلقة وتأخذ قرارات لا نعرف من المسئول عنها، وكيف يحاسبه الشعب إذا ما أخطأ، حيث لا يراهم الناس ولا يعرفونهم، بل يضعون الدين فى مواجهة الشعب وعليه أن ينفذ قراراتهم التى لا تراعى سوى مصالح جماعتهم وأهدافها، وبذلك يتوجه النقد كله للرئيس، أما هم فمختبئون فى غرف المقطم. إذا كانت الجماعة - كما نرى – هى مصدر الفكر والقرارات فالواجب أن تظهر لنا فى العلن، لنحاسبها ونجادلها... أما لماذا هى عنصرية، لأنها جماعة مغلقة اتخذت من تفسيرها لنصوص دينية مرجعية لها، حيث تعتبر كل من لا ينتمى إليها من الأغيار الذين لا قيمة لهم ولا اعتبار، لا يعتد بآرائهم ولا بمطالبهم، لأنهم لا يفهمون الإسلام ولا يعتقدون فى أفكار الجماعة وأهداف الجماعة. هل على المواطن المصرى أن يستسلم لفكر وإرادة الإخوان دون قيد أو شرط وإلا فإن حكمه هو حكم الكافر المرتد فى الدنيا والآثم فى الآخرة. مطلوب أن يفهم الإخوان وكل القوى السياسية الأخرى ضرورة الالتزام والاحتكام إلى أساليب وقواعد الصراع السياسى الديموقراطى فى مجتمع البشر المختلفين فكريا ودينيا واجتماعيا واقتصاديا وذوى مناهج بشرية مختلفة ومتعددة، هذا الالتزام ضرورة مهمة وحيوية لاستمرار التجربة والتقدم الديموقراطى. إن القبول الحقيقى بآليات التفاعل الديموقراطى وبقواعده الملزمة للجميع بقبول المخالف والمعارض هو الحل وإلا فإن الصراع السياسى سيكون بدلا من الحوار السياسى وهو الصراع الذى نخشى أن يدور على أساس عقائدى ومقدسات دينية وهو ما سيؤدى بدوره إلى زرع وتفجير ألغام الحرب الأهلية والطائفية التى ستمزق الوحدة الوطنية وتقتت الوطن ذاته فى نهاية المطاف المأساوى خلاصة الأمر: كيف يمكن الإقرار بحق كل القوى والأحزاب والتيارات الفكرية السياسية بما فيها الجماعات الدينية فى التعبير والتنظيم المشروع مع ضمان استمرار تماسك الوحدة الوطنية، وهو سؤال يبدو أوليا فى الممارسة الديموقراطية، لكن هذا هو واقعنا الأليم والذى فرض علينا السؤال.