مع مرور الزمن عادة ما تشهد المجتمعات ظواهر مستحدثة عليها، كما حدث مؤخراً على سبيل المثال فى النواحى البيئية والصحية كإنفلونزا الطيور ومن بعدها الخنازير، وللأسف تظل المجتمعات العربية بيئة خصبة لمثل هذه الظواهر، وتطور الأمر إلى جوانب أخطر من ذلك تتعلق بالمنظومة الثقافية والأخلاقية رغم عدم توافر بيئة ثقافية ملائمة لها إلا أنها استفحلت فى مجتمعاتنا، ومن هذه حركة بلاك بلوك، التى تحدثت عنها من قبل، وظاهرة أخرى جديدة هى موضوع مقال اليوم، وهى رقصة هارلم شيك Harlem Shake، وهى عبارة عن حركات وإيماءات جسدية، تبدأ بأداء فرد واحد قد يرتدى قناعاً على رأسه، ثم يتداخل معه من حوله، وارتبط ظهورها بالمراهقين وهم فى حالة إفراطهم فى الشرب. ويرى البعض أن هذه الرقصة ظهرت هذا العام، إلا أنها فى حقيقة الأمر تعود إلى عام 1981 عندما قام بها شخص يعرف باسم Albee فى منتصف مباراة كرة السلة فى هارلم روكر بارك، ومن هنا جاء الاسم هارلم شيك. وكانت حركات رقصته غريبة بسبب إفراطه فى الشرب، ثم أضاف لها Harrison Bauer الموسيقى، وامتدت الرقصة إلى الرسوم المتحركة للمسلسل الأمريكى Sampson family ، ثم انتشرت خارج أمريكا عام 2001 عندما جسدت فى فيديو كليب "Let's Get It" لمغنى هيب هوب المنحدر من هارلم G. Dep ومغنى راب P. Diddy. . ومع مطلع عام 2013 قام فيلثى فرانك Filthy Frank برفع أول فيديو للرقصة على اليوتيوب، وبعدها قام 5 مراهقين من كوينزلاند فى أستراليا برفع فيديو مدته 31 ثانية شاهده أكثر من 19 مليون مشاهد، وأدى ذلك لفصل 15 من عمال المناجم بشركة “بارمينكو" بمنجم "آغنو" للذهب. كما انتشر مقطع فيديو مدته 3 دقائق لجنود إسرائيليين يرتدون ملابس تنكرية يؤدون الرقصة بالقرب من دبابتين، أدى إلى سجن الجندى الذى نشر الفيديو وتجريد قائد الوحدة العسكرية من منصبه. وفى أقل من شهر تم تصوير أكثر من 40 ألف نسخة منها حول العالم، وتجاوز عدد المشاهدات 175 مليون مشاهد فى عدة أسابيع، وتعود أسباب الانتشار الواسع لرقصة هارلم شيك إلى المدة القصيرة لمقطع الفيديو، بالإضافة إلى تقنية التصوير السهلة، فضلاً عن استخدام ميم الإنترنت Internet meme ، والذى يُعرف باسم التسويق الفيروسى Viral Marketing. وبدأ انتشار الدومينو إلى الدول العربية، ففى مصر بدأت بقيام شباب بتأدية الرقصة أمام المقر الرئيسى لجماعة الإخوان، ثم آخرون أمام وزارة الداخلية للتنديد بعنف الشرطة ضد المتظاهرين، ثم أربعة طلاب بكلية الصيدلة بحى العجوزة، ثم طلاب كلية طب الأسنان بجامعة عين شمس أثناء إجراء انتخابات الاتحادات الطلابية، وصولاً إلى الأهرامات فى الأول من مارس. وفى تونس، أدى هذه الرقصة طلاب الثانونية بمدرسة "الإمام مسلم" يوم السبت 23 فبراير 2013، ثم انتشرت فى بعض المقاهى والجامعات التونسية. وفى السعودية تفاعل العديد من السعوديين مع الرقصة، خاصة طلاب المدارس والجامعات، خاصة بين هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم لقب "أبوسروال وفانيله" و"درباوية". وعن أساليب تعامل الحكومات مع القائمين بهذه الرقصة، ورغم استخدامها كوسيلة ترفيهية، إلا أن تعامل الحكومات والسلطات معها كان حازماً وصارماً، ففى أستراليا واجهتها بعقوبة الفصل، وهو ما قام به وزير التعليم التونسى، وفى روسيا تعمدت الشرطة تفرقة الشباب الذين تجمعوا فى الأسواق التجارية لأداء هارلم شيك، كذلك الشرطة التونسية منعت ممارسة الرقصة قرب إحدى مستشفيات مدينة سوسة. وانطلاقاً مما سبق، نستخلص بعض النقاط المهمة: - تغيير الهدف من ممارسة هارلم شيك من مجرد الترفيهية إلى اعتبارها إحدى آليات الاحتجاج السياسى والتعبير عن الرفض، حيث تم استخدمها فى اليونان وأسبانيا وقبرص احتجاجاً على السياسات الإقتصادية لبلدانهم، وفى مصر وتونس والسعودية ودبى ولبنان والمغرب العربى لرفض الاستبداد السياسى. - إن هارلم شيك لا يختلف أداؤها ولا سلوكيات القائمين بها عن هؤلاء المعروفين ب"عبدة الشيطان". - يلاحظ أن الفئات العمرية التى تمارس هذه الرقصة ترتكز فى المراهقيين، وأن انتشارها بين طلاب المدارس والجامعات أمر فى غاية الخطورة ويهدد المنظومة التعليمية والأخلافية. - إنه رغم انتشارها فى الدول الأوروبية إلا أنه لم تشهد أى مدرسة أو جامعة محترمة قيام طلابها بممارسة هذه الرقصة فى حرمها الجامعى، بل هناك احترام للمنظومة التعليمية وللصرح الجامعى. - نظراً لسرعة انتشارها، استغلتها شركات الدعاية حيث تم استخدامها فى بعض المواقع للترويج لحملة قطارات المترو فى ملبورن وأستراليا لتعزيز سلامة السكك الحديدية، واستخدمتها شركة هيونداى لجذب انتباه المشترين الأمريكيين. والسؤال، هل انتشار هذه الرقصة فى مجتمعنا جاء نتيجة تدنى المنظومة الأخلاقية؟ وهل استبداد النظام مبرر للقيام ببعض السلوكيات والتصرفات غير الملائمة لعاداتنا وتقاليدنا؟ وهل يمكن أن يقوم جنود الأمن المركزى مثلاً بأداء هذه الرقصة فى احتجاجاتهم؟ وماذا بعد الميليشيات المدنية مثل بلاك بلوك والهارلم شيك؟ ولماذا لا نبدع نحن فى ابتكار أساليب تتناسب مع منظومتنا الأخلاقية؟ وما خطر انتشار مثل هذه السلوكيات مستقبلاً؟! كل هذه التساؤلات تحتاج إلى إجابات... أتركها للقراء.