كيف يهدى مجنون لمجنون آخر صدى من هذيان قديم؟! مقدمة بقلم: محمد عفيفى مطر أيمكن أن يقرأ المرء نصوصا عراقية فى زمن الانقلاب الكونى الذى عصف ويعصف بكل شئ بين الرافدين دون أن يصاحب القراءة دوى القيامة وهدم السماوات وانفجار الأرض بالزلازل والبراكين، ودون دهشة الذهاب بالعقل إلى أقصى طاقات الجنون والهذيان ؟! جنون هو عقل الكارثة، وهذيان هوحكمة التحديق فى العاصفة التى كشفت وعرت خبايا التاريخ النذل، منذ حاول السومريون أسر الكون فى الحروف واصطياد الخلود فى خطى جلجامش، وانبثاق المدن والحضارات فى فيض الدم والأشلاء الآدمية الطافية فوق ماء الزمن وأمواج الأحداث، ولغة قول متفلت من الإيمان والتجديف والهرطقة هى لغة الانفعال الدامى على لسان شاعر سارد مجنون يهذى فى شوارع الحكمة والتأمل، يحرث النسيان بوعى متوقد وجرأة حرة. فى الجرأة الحرة، وليس على المجنون من حرج، تتفجر تواريخ الغرائز ومكبوتات الضمائر ومقموعات الرغبة، بهية زاهية، صريحة منكشفة فى فيض مرعب من مشاهد الحرب العالمية التى أشعلتها أمم الأرض جميعاً ضد شعب صغير محاصر من الرعاة والفلاحين ومتسولى الأزقة والهامشين من البؤساء والنساء والأطفال والعجزة، وهم وحدهم من يغسل العالم يديه بدمائهم فى مذبحة "صار لونها عراقياً" ولا لون آخر لها. فى سرد من النثر الخالص من إيهامات شكل قصيدة النثر التى لم تتخلص بعد من آليات ومتعارفات شكل القصيدة التفعيلة فى تقطيع وتنظيم العبارات والسطور على سطح الكتابة، تتحدد الشعرية بانفجار الصور، وخضوع سبك اللغة لعالم التجربة، وربط حرية التداعيات السائبة بالقيود والضرورات المحكومة بالمعنى الكلى للعمل، إنه الكابوس المحكوم بمنطقه، والمتشكل من مضمونه الحى العميق، فى بحرين هائج فوار من مفردات الموت وبشاعة القسوة الممهورة بأحط ما فى حياة البشر من انتهاك واغتصاب وسحق لكرامة الوجود بكل مظاهره، ينفجر هذا السرد بشعره الملتهب ونثره المسنن المرهف، وكأننى أرى وجهاً من وجوه "الحسن بن الهيثم" وهو يدور فى شوارع القاهرة ملتاثاً بالرعب من الحاكم بأمر الله، فيبادل جنوناً بجنون، لكى يفلت بعقل من جنون السيف الباطش، وأسأل نفسى: هل يلبس صديقى خضير ميرى وجهاً من وجوه الحسن بن الهيثم، فهو يبادلنا جنونا بجنون؟! يحكى خضير فى كتاباته كلها سيرة حياته بين المصحات والمشافى والعيادات النفسية والعصبية، وبين أشتات من البشر "الفاقدين" الضائعين فى وطن مفقود بزمن القتل والرعب، يتقلب من عدم إلى عدم، ويناضل عدماً بعدم، وتحت بساط هذه العدمية المجروحة يطل اشتهاء متوقد بحب الحياة وذاكرة الخلق وأنفاس التوالد والخصوبة، ولعل هذا هو الوجه الآخر لحسن بن الهيثم، تتشظى مباهجه تحت القناع السميك، مباهج الموسيقى المنتظرة، ولذائذ التهتك الفضائحى، وقطرات السعادة الوهمية المسروقة من أخيلة الحرمان والفوضى وتجديفات الهوس الجنسى، وليس على المجنون من حرج، والتماعات من روح المكان فى أسواق بغداد ومشاغلها وفتون الحياة اليومية ومشاهدها الحسية الدافئة. قبل أن ينتظم معى خيط البحث عن الإشراقات المندلعة من تحت القناع، كان خضير ميرى يلفحنى بيومياته المكتوبة على دفاتر المستشفى وبنصوص حولياته، ليعيدنى مرة أخرى إلى قلب الدوامة وعين العاصفة، ولعلنى أغبطه وأحسده أن كانت تجربة عمره تجربة هائلة بمعطياتها الخارجية الداهمة ومعطيات مكابداته الدامية المتشظية، فالكثير مما نقرأه فى الشعر والنثر مفتقد لهذا اللهب الخلاق، إنها تجارب ورقية محنطة، فشاعر يبصق فى ورق شاعر، ونثر يمارس خواءه وفراغه فى كتابة ناثر، فالتجارب الحياتية والروحية نضال شخصى لا يخوضه أحد نيابة عن أحد. إذا كانت حافة التجربة بيتاً من يقطين، فهل هى بشارة تحمل دلالة بيت اليقطين الذى استظل به يونس الطالع من تجربة الموت إلى محنة الحياة من جديد. هذه كتابة عراقية الأنساب لا يكتبها إلا عراقى، ومن العراق دائماً تأتى عطايا الجنون الجميل. محمد عفيفى مطر أبريل 2009