توشحت مستشفى " الشفاء" بالعتمة, عتمتها لها عيون تضىء من قناديل شاحبة, تنشد معزوفة الرحيل, تجدل من آهات المصابين، تاريخ وطن, تدق بيدها المرتعشة على هاتفها, تطلب "غزة" على صوت غارات تهتز لها شاشات التلفاز, تنشد صوتا يصل إليها من هناك, تبثهم روحا بأنها معهم, رغم نأى المسافات: هل أنتم بخير؟ ضربات الجو تحاصرنا, نزعنا أضلف الشبابيك, البرد يهاجمنا. لا يهم البرد, ما يهم هو النجاة. لا ننام الليل, أخال صرخات أطفالى تعلو ضربات الأباتشى . سكن الخط , عاد صوته يتأرجح على خيوط من هواء. خبرينى عن العالم من حولنا ؟ قلوب الناس معكم, التظاهرات عمت العالم, اصمد يا أخى. بصوت مأزوم, تهالك على عقارب الوقت: مشكلتى الطحين, لم يتبق ما يكفينا لأيام قادمة, لجأ لبيتنا أناس من أطراف جباليا, السلاطين, بيت لاهيا. هم منكوبون, من منهم أراد أن يهجر بيته, لا يهمك رغيف الخبز, عليك بالبقول, استعض عنه بأى شىء . أعمدة الخرسانة تتطاير فى الهواء, لتسقط أشد عنفا من قذيفة. اصمد يا أخى. تتهاوى خيوط من هواء, وتسكن غصة فى الحلق, تسقط عليها حروف الكلمات, يعاود المذيع ظهوره من مستشفى "الشفاء" تغوص فى أعماق الصورة, مستشفى "الشفاء" على أسرتها سجى والدها للحظة رحيل, وأمها واحتضارها هناك, تسمع صوتها مسافرا, توصى بأن يظلوا متحابين, ولا يتفرقوا أبدا, خرجوا من بواباتها دون لحظة وداع, حالت بينها وبينهم معابر مغلقة, مستشفى وطريق يأخذها إليه, عند نهاية شارع الوحدة, زيارات للمرضى, وحرص أمها أن تخصها بحمل الحلوى, لتكون أول من يدخل على أحبة تزورهم ...... ومنها عادت أمها بطفلة فقدت جميع أهلها, عادت بها لتقاسم أخيها فى حليب أمه, وأطلقت عليها اسم " حكمت " ما سر مستشفى " الشفاء " فى ملحمة شعب, وتاريخ وطن ؟!....... منه خرجت كل الحكايات, الباكية, والساخرة ..... زوجة خالها يوم وضعت وليدها, خرجت من المستشفى بصحبة زوجها, وقبل أن يصلا البيت, يسألها, هل المولود بنت أم ولد, على سهوم الوقت قالت بلهجة ناعسة, أنها لم تعرف بعد , وكيف وقفا فى زاوية من الشارع, يخلعن عنه لفافاته ليعرف صبى أم صبية .... كانت تطلق الضحكات على خالها وزوجته, اللذين خرجا من مستشفى الشفاء.. يعود الصوت من غزة : اليوم خبزت "أزهار" مائة رغيف فى تنور الطين . صار بيتها هناك ملجأ للفارين من أتون النار, وكيف صارت قطوف العنب, شواهد من الفسفور الأبيض, طائرات الأباتشى تبحث عن أجساد الصغار تحت الأغطية الصوفية, يتضور الطفل بجوار أمه جوعا, يبحث عن ملاذ حنون, يتدفق الدم لزجا, ساخنا, فتغرق فيه صرخاته, يهدأ, يرخى ساعديه لجوارها, يستسلم لنعاس حزين, على مرثية فقده الأبدى ...... ينتشله رجل الإسعاف, يضمه إلى صدره, يرتعد خوفا, يعاود البكاء, باحثا عن صدر أمه, تلتقطه نسوة غريبات, سألن عن اسمه, يتحاذرن, يشتد بكاؤه, تصرخ إحداهن: وليد .... يعود صوت الزنانة, ليتعانق مع صوت قذائف ارتجاجية, تميد الأرض, تتساقط شواهد فسفورية تشابه قطوف العنب, تهبط كقطع إسفنجية, تبحث عن أجسادهم, لتذوب عليها, تتجذر فى مساماتها, لا تمحيها سنوات قادمة ...... تتقدم الأباتشى مترنحة, حبلى بحمولتها المميتة, تبحث عن غفوة بريئة, تقض منامها, عن ابتسامة طفلة , تؤدها , ينهار الجدار , تنكفىء الأسقف , تتطاير الأعمدة , يتلوى الدخان , تصرخ الطفلة التى صارت وحيدة بين أكوام الردم, تمتد يد تنتشلها, تتشبث بشارة على صدر رجل الإسعاف, تلتصق به, وصوت صفاراتها يدوى فى كيانها الصغير, يصل بها لمستشفى " الشفاء " يحاول انتزاعها عن صدره, تتشبث بكل قوتها, تقاوم أيدى تنتزعها عنه ...... أى علاقة تلك التى قامت بينهما فى رحلة الدقائق الخمس ؟!.... يترفق بها , يهدهد خوفها, والفزع يقفز من مسامات وجهها, تقطب جروحها, ويثقب فى جلدها ليسرى فى يدها محلول الحياة ....... يغيب رجل الإسعاف, يقتفى صوت الزنانة, الباحثة عن أجساد الصغار تحت الأغطية الصوفية.