البحث عن توصيف للعلاقة بين الأزهر والسلطة على مدار التاريخ يبدو أمرا صعبا وشديد التعقيد، فلا يمكنك أن تصفها بالعلاقة العدائية، ولا يمكنك أن تضعها فى برواز الوضع الحميمى، وأزمة تلك العلاقة أن البحث الموضوعى والعلمى عن هويتها ضاع ما بين تطرف الآراء.. أطراف ترى أن الأزهر على مدار تاريخه كان خاضعا للسلطة وأحيانا لاعبا رئيسيا فى توطين أركانها أو بمعنى أصح المحلل الدينى والشرعى لوجودها، وأطراف أخرى ترى الأزهر لاعبا وطنيا مؤثرا فى تاريخ مصر وتاريخ مواجهات الاستعمار والطغيان، وما بين هؤلاء وأولئك يتوه الجوهر الحقيقى لتلك العلاقة التى قامت ومازالت على حالة من الشد والجذب ومحاولات مستمرة للسيطرة على الجامع والمؤسسة التى تمثل المرجعية الأهم والأكثر قبولا لدى الشارع المصرى، حينما يتعلق الأمر بالدين ولأسباب تتعلق بالخيط الرفيع بين السياسة والدين فى الدولة المصرية، مرت مؤسسة الأزهر بالكثير من المنعطفات التى كانت تبدأ دينية، ثم تنقلب تدريجياً إلى ما هو غير ذلك، وبعض شيوخ الأزهر تمكنوا من إدارة الدفة لصالح ما يرونه هم، وبعضهم الآخر فضل أن ينأى بنفسه عن معترك التدخل السياسى فترك الجمل بما حمل، لكن من بين مشايخ الأزهر أيضاً من حاولوا جاهدين التوصل إلى مواءمات تعفيهم من غضب الحاكم من جهة، ونقمة المحكوم من الجهة الأخرى، إلا أن الثابت فى تاريخ مؤسسة الأزهر أن قدرة شيخه على فرض رؤيته ارتبطت بمساحة الحرية المتاحة للمؤسسة نفسها داخل الدولة، وهو ما أدركته الإدارات السياسية المتعاقبة على مصر، فكانت فى كل حين تعمل على تقليص هذه المساحة، لتقترب المسافة بين الاثنين حتى لا تكاد ترى، وفى حين كان جميع من تولوا المنصب بلا استثناء من العلماء الأجلاء الذين كانت لهم إسهامات بارزة فى المجال الدينى، إلا أن مواقفهم السياسية كانت هى العلامات البارزة التى تركت أثراً لا يزول على مسيرتهم. ولكن كل ذلك لا ينفى أبدا أن الأزهر ظل لعقود طويلة يمثل بشكل أو بآخر صوت الشعب ضد ظلم حكامه، بل أصبح مركزا للمقاومة الوطنية والثورة بداية من مرحلة المواجهة مع نابليون والاحتلال الفرنسى وصولا إلا دوره وموقفه الثمين من ثورة 25 يناير وخلال المرحلة الانتقالية التى تعيشها مصر. والثابت تاريخيا أن الدور السياسى للأزهر بدأ يتقلص ويتراجع بعد ثورة يوليو 52، حيث وضعت الدولة يدها على أوقاف الأزهر وحرمته من موارده فضربت استقلاليته وحولته إلى مؤسسة تتساوى مع باقى الأجهزة الحكومية، وفى عام 1961 أصدرت الثورة قانونا يسند صلاحية تعيين شيخ الأزهر ووكيله ورئيس جامعته وعمداء كلياته إلى رئاسة الجمهورية، ففقد الأزهر استقلاليته التى كان يتمتع بها، وأصبح مؤسسة حكومية تابعة للنظام الحاكم. وهى التهمة التى تحمل بعضا من الحقيقة والتى مازالت تلاحق الأزهر ويرفعها ويغذيها كل من يريدون منازعة مرجعيته الروحية الدينية. الأحداث المتتالية بعد ثورة 25 يناير ووصول الإخوان للحكم والسعى الواضح لتحجيم دور الأزهر والسيطرة عليه ظهرت كفصل جديد فى تلك العلاقة الجدلية بين الأزهر والسلطة، وفى تصريح لشيخ الأزهر الحالى يفسر طبيعة العلاقة بين الأزهر والسياسة وسعى السلطة وفئات من المجتمع لأن يكون لها مثل دور الأزهر قال: «إن البعض من أصحاب المذاهب الطائفية يريدون سحب البساط من تحت أقدام الأزهر ليصبحوا هم المتحدثين الرسميين باسم الإسلام، لكن المسلمين سيتخطونهم قريباً أو بعيداً. وشدد الطيب على أن علاقة الدولة بالأزهر فى مصر هى علاقة عاقلة، لأن تدخل الأزهر فى السياسة سيقضى عليه ويخفض من قدره فى نفوس الناس. تخوف شيخ الأزهر له بعد تاريخى بدأ مع نشأة الأزهر ذاته وارتفع فى عهد الشيخ عبدالله الشرقاوى أثناء الحملة الفرنسية على مصر، وكانت له مواقف شجاعة أثناء الحملة، وقام محمد على باشا والى مصر بوضع الشيخ الشرقاوى تحت الإقامة الجبرية فى محاولة منه للقضاء على نفوذ علماء الأزهر، ثم الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوى الذى تولى الأزهر فى الفترة ما بين 1907 إلى 1928، عاصر أحداث الثورة المصرية سنة 1919 م وما تلاها من صراع بين الشعب ومستعمريه وحكامه وقاد مسيرة الأزهر فى خضم تلك الأحداث حتى توفى سنة 1346 ه / 1927. ولكن التدخل السياسى لعلماء الأزهر بدأ فى طور الصدام مع السلطة، عندما أفتى الشيخ الأنبابى بعدم صلاحية الخديوى توفيق للحكم بعد موالاته للإنجليز، ثم معارضته للخديوى عباس الثانى، ومن ثم تدخّلت السلطة الحاكمة فى شؤون الأزهر بإنشاء مجلس إدارة له، نال من صلاحيات شيخه، ثم ازداد الأمر سوءًا عندما صدر قانون الأزهر عام 1911م، وأسس هيئة كبار العلماء، ثم تغير اسمها فيما بعد إلى جماعة كبار العلماء، واشترط القانون أن يكون ترشيح شيخ الأزهر مِن بين أعضاء هذه الهيئة، وكان التجاوزُ الوحيد من الملك فاروق عام 45، حينما عين الشيخ مصطفى عبدالرازق برغم أنه لم يكن عضوًا فى جماعة كبار العلماء. وفى عهد عبدالناصر، صدر القانون رقم 103 لسنة 1961، الذى حول الأزهر إلى جامعة، وألغى هيئة كبار العلماء، وحولها إلى مجمع البحوث الإسلامية، ومنذُ إنشاء المجمع صار شيخ الأزهر يعين قانونًا من بين أعضائه بقرار من رئيس الجمهورية وباختياره، وهو ما فتَح الباب لتدخُّل رئيس الدولة - فى اختيار وتعيين شيخ الأزهر، وقلص دور شيخ الأزهر فى القضايا الاجتماعية والسياسية وقضايا الإصلاح التى طالما كانتْ محل اهتمام شيوخ الأزهر، بل حاول معظم شيوخ الأزهر منذ ذلك تطويعَ الفتوى لخدمة السياسات السائدة. الشيخ محمود شلتوت هو أول من حمل لقب الإمام الأكبر بعد قرار عبد الناصر رقم 103 لسنة 1961، الخاص بتطوير الأزهر، ورغم أن شلتوت أحد تلامذة مدرسة الإحياء والتجديد التى قادها الإمام محمد عبده، وقام بتغيير معالم التعليم الأزهرى وأسس دار التقريب بين المذاهب، وتدريس الفقه الشيعى على طلاب الأزهر، ولكنه تقدم باستقالته من المشيخة عام 1963 من منصبه. وساعد الشيخ محمد الفحام الرئيس السادات فى أوائل السبعينيات فى التصدى للأحداث الطائفية فى الخانكة بين مسلمين ومسيحيين، حيث شارك الشيخ فى اللجنة التى شكلها الرئيس برئاسة وكيل مجلس الشعب لتقصى الحقائق.. فتاوى الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر « 73-78 ساعدت السادات سياسيا ولكن الشيخ استقال بسبب قرار السادات بتقليص صلاحيات شيخ الأزهر ونقلها إلى وزير الأوقاف، إلا أن الضغوط الكبيرة التى مورست على الرئيس السادات فى الداخل والخارج أجبرته على التراجع عن قراره ببيان أعاد فيه لمنصب شيخ الأزهر اعتباره، ورفع درجته إلى منصب وزير. وعلى عكس أدوار الفحام ومحمود ظلت حقبة ولاية الشيخ جاد الحق على جاد الحق «1982- 1996» هادئة دون التدخل فى السياسة، واهتم بالأمور الفقهية مبتعدا عن السياسة حتى تولى الشيخ سيد طنطاوى 1996 حتى عام 2010، وهى الفترة التى شهدت اندماجا أكبر بين الأزهر والسياسة وظهر طنطاوى كثيرا بجوار مبارك فى مواقف سياسية. دراسة قدمها «ناثان براون» الباحث فى برنامج الشرق الأوسط بمؤسسة كارينجى للسلام الدولى وأستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، حول «دور الأزهر فى حقبة ما بعد الثورة» ونشرت فى مجلة السياسة الدولية تفسر الدراسة سعى الأزهر للوصول إلى دور جديد فى سياق مخالف يحقق له الاستقلالية عن السلطة السياسية. دراسة «براون» انطلقت من جدلية العلاقة بين الدينى والسياسى التى طُرحت كقضية رئيسية على الأجندة السياسية، وأصبحت موضع نقاش مجتمعى واسع عقب نجاح ثورة يناير 2011، وهو الأمر الذى سينتهى إلى دولة متأثرة بالدين، بحسب ما ذهب إليه «براون». ومن هذا المنطلق، فإن الأزهر سيحتل مساحة أبرز كمؤسسة يتقاطع داخلها الدينى والسياسى. فالأزهر لم يعد مجرد مسجد، ولكنه أصبح مؤسسة كبيرة معقدة يتشابك فيها الدينى والدنيوى. وشهدت الأشهر التى أعقبت ثورة يناير تزايدًا فى المطالبات بإصلاح الأزهر برمته، واستعادة المؤسسة لاستقلاليتها التى فقدتها منذ سنوات، حينما سعت السلطة السياسية إبان حكم الرئيس «جمال عبد الناصر» لتقويض سلطات الأزهر، وسلب استقلاليته وأصدرت قانونا عام 1961، حيث تم استبدال هيئة كبار العلماء التى كانت تتولى إدارة الأمور الرئيسية بالأزهر بمجلس من كبار مسؤولى الأزهر، بمن فيهم عمداء الكليات المدنية (العلمانية)، وأصبح تعيين شيخ الأزهر من سلطات رئيس الجمهورية، وتم ربط مكتب شيخ الأزهر بمكتب رئيس الوزراء بدلاً من رئيس الجمهورية، كما نُقلت تبعية الأوقاف الدينية إلى وزارة الأوقاف وسعت السلطة السياسية إلى استخدام دار الإفتاء كثقل موازن لشيخ الأزهر، وشرع نظام «مبارك» فى القضاء على أى محاولات لإحياء دور الأزهر، عبر تعيين شيخ للأزهر يعبر عن مواقف السلطة السياسية، حيث عمد فى عام 1996 إلى نقل المفتى محمد سيد طنطاوى إلى مشيخة الأزهر، وهو المعروف عنه مواقفه المؤيدة للنظام، فضلاً عن تحييد الأصوات المعارضة داخل المؤسسة الدينية، وفى مقدمتها جبهة علماء الأزهر، حيث تمكن النظام السابق من تقليص دورها إلى مجرد موقع على شبكة الإنترنت.