سنوات التعليم فاتت ثقيلة، واحدة ورا التانية حتى تخرج وحصل على التعيين سريعا مثله مثل معظم أهل زمانه "موظف قد الدنيا فى الهيئة العربية للتصنيع".. سعادة أهله به لم تمنع قرار الوالد فى أن يحمل محمد مهمة "الحفاظ على مهنة العائلة".. تغير العالم واختلف كل ما كان يتلمسه ويراه ولكنه لم يتركها، وحتى الآن يأتى البشر من كل مكان فى العالم ليجدوا دكان والده "الحاج يوسف عبد الظاهر" يحتفظ "بالسرير الاسطنبولى" أو "السرير النحاسى" مثلما سلمه جده لوالده، ومثلما أستلمه هو منه ويستعد الآن ليسلمه لأخيه الأصغر من خلال دكان يحمل عبق ورائحة التاريخ بجانب منطقة الحسين. هكذا تمر الخمسة وستين عاما التى قضاها الحاج محمد فى هذه الدنيا أمام عينيه وهو جالس أسفل صورة والده وسط "النابوليا القديمة" كما ينطقها فى محلهم الذى لا تدعى مساحته بعض الأمتار ولكنه استطاع تحدى الظروف المادية للشعب المصرى، وتقدم التكنولوجيا الذى كان يأتى كل يوم لينحى الفن والصناعات القديمة التى تحتاج وقت ومال وجهد حتى تخرج قطعة منها للنور، وحافظ على عواميد السراير النحاسية فوق الأرض حتى عام 2013. عن ظهر قلب يحفظ الحاج محمد وأخيه الصغير أحمد قصة السرير النحاس ويقول "الدولة الحديثة لمحمد على كانت تريد تأسيس نهضة شاملة فى كل حاجة فى البلد ومنها صناعة النابوليا وجابوا فكرة السراير النحاس من تركيا، وعشان كده بيتسمى الاسطنبولى نسبة لاسطنبول، وبدأوا يعلموا الصنايعية عليه، جدنا الكبير كان من الناس إللى بدأت هذا الفن ونقله لأبونا، لكن مع السبعينات بدأ السرير الخشب يظهر أرخص وأسرع ويقضى الحاجة وبدأت شعبية السرير النحاس تتراجع وينقرض يوم بعد يوم". الرجل الذى يأمل ألا تصبح مهنته فى يوم من الأيام حبيسة أوراق كتب التاريخ، لم يستطع أن يخفى خوفه عليها وصعوبة استمرارها ويقول " الصنايعى اللى بيروح ما يبتعوضش وصنايعية زمان حاجة ودلوقتى حاجة، زمان كان الصنايعى يفضل يشتغل فى السرير الواحد شهر ولو ما عجبوش يهده كله ويعيده ثانى، دلوقتى الصنايعى عايز يخلص عشان يقبض ويأكل ولادة، وحتى الزبون.. زمان ستى وستك كانوا ما يتجوزوش إلا والسرير النحاس عرض عرضين". سبع جنيهات ونصف هو سعر القطع الفنية التى تحفر تفاصيلها أيدى صنايعية مهرة قطعة بقطعة حينما كان الحاج محمد مازال يشاهد والده وهو يصنع الموبيليات ويبيعها، كان كل شيء رخيص والحياة هادئة مثلما يحكى "كانت البريزة بتفتح بيت" ويتابعه أخيه الصغير أحمد "دلوقتى السرير بيبدأ من ألفين ولحد عشرين ألف". "اسطنبولى، وبرمنجهام" هما الاسمان الأشهر للسرير النحاسى كما يقول أحمد فالاسطنبولى هو الاسم الدارج لهذا النوع من أما برمنجهام نسبه إلى المدينة الإأنجليزية فهو الاسم الذى يطلق على القطع الفاخرة التى تصنع فى بريطانيا وأتت لمصر وقت الاحتلال "والملوك والبهوات" مختومة بختم المدينة ومازالت القطعة منها تساوى آلاف الجنيهات حتى الآن.