مسجد عمر مكرم الساعة الثانية عشرة ظهراً، الشمس تتوسط كبد سماء القاهرة ، العرق يتصبب من الحشود الغفيرة التى تتعدى مئات الآلاف فى محيط المسجد ، أحاول جاهداً أن أتسلل بين الصفوف أتفرس فى وجوه المحتشدين بغية أن أعرف ماذا يحدث ولكنى لم أر على وجوههم حزناً ولافرحاً ولم أستطع قراءة تعبيراتها، كل شئ فى المكان يوحى بالغموض وقفت على أطراف أصابعى ورفعت قامتى فرأيت رموزاً من رجال الدين الإسلامى والمسيحى، يتقدمون الصفوف، وإلى جوارهم سياسيون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومشاهير رجال الإعلام ، تعجبت وما زادنى ذلك إلا حيرة وحدثتنى نفسى بأنه لا يجمع كل هؤلاء إلا حدث جلل. سألت رجلا بجوارى فأخبرنى أنها جنازة ، وعندما سألته جنازة من؟ أشاح بوجهه بعيداً عنى وهو يردد " إنت مش عايش فى مصر؟" تركنى ذلك الرجل فريسة لأفكار سوداء تملأ رأسى لا تجد ما يؤكدها أو ينفيها حتى رأيت بين الحشود عجوزاً يتكأ على عصا لا تحمله قدماه يبحث عن بعض الظل ليقيه قيظ الشمس، فحسبت أنى وجدت ضالتى المنشودة اقتربت منه وأخذت يده برفق إلى بقعة ظل بالقرب من شجرة فى محيط المسجد ، كانت الأسئلة تتزاحم فى رأسى أردت أن ألقيها للعجوز ليجيب عليها مرة واحدة، ولكنى تراجعت شفقة عليه ، وسألته برفق - لمن هذه الجنازة المهيبة ؟ العجوز: للدُمى القديمة. - أنت تسخر منى؟! العجوز: لا، أنا لا أسخر منك، فقد جمعنا الدمى القديمة التى كانت تتسبب فى تعكير صفو حياتنا ووضعناها فى نعش وسوف نقوم بدفنها. وهل الدُمى لها قدرة على تعكير صفو الحياة؟. العجوز: لقد حولت تلك الدُمى حياتنا إلى جحيم. أنت تبالغ ، كيف لدُمى صنعتوها بأيديكم أن تحول حياتكم إلى جحيم؟. العجوز: نحن لم نصنعها، بل وجدناها منتشرة فى كل شبر من أرض مصر، فى الشوارع والمبانى الحكومية والمستشفيات والمدارس بل وجدنا بعضاً منها فى منازلنا، كل ما فعلناه هو أننا جمعناها ووضعناها فى النعش. وهل عانيت أنت من الدُمى القديمة؟. العجوز : كل المصريين عانوا من الدمى القديمة، فكل مصرى له دمية عذبته، فهناك من عذبته دمية الفساد، وهناك من عذبته دمية الرشوة، وهناك من عذبته دمية استغلال النفوذ، وهناك من عذبته دمية تزوير الانتخابات، هناك آلاف الدمى التى عذبت المصريين. وهل وضعتم كل الدمى القديمة فى النعش؟. العجوز: نعم، الحشود التى تراها جمعوا الدمى القديمة، كل واحد منهم جمع الدمية التى عذبته ووضعها فى النعش بيده، وأنا بيدى وضعت ثلاث دميات، فزوجتى أعطتنى دمية غلاء الأسعار وجدتها فى المطبخ، وابنى أعطانى دمية قانون الطوارئ وجدها بجوار قسم شرطة. وكم دمية يسمح للشخص أن يضعها فى النعش؟. العجوز: على قدر تعذيب الدمى لك. -وأين ستدفنونها؟. العجوز: الحكومة أعدت مقبرة بطريق مصر- إسكندرية الصحراوى ، سنقوم بدفن الدمى فيها. - ولكن الدمى كما تقول عددها آلاف فكيف لمقبرة أن تسعهم جميعا؟.ً العجوز: الحكومة أكدت لنا أن المقبرة كبيرة وسوف تسع كل الدمى. يقطع حوارى مع العجوز صوت شيخ يدعو اللهم خلصنا منهم، فيردد الحشود آمين، اللهم إنهم سامونا العذاب فلا تمكنهم منا ، فيردد الحشود آمين، اللهم أكتب لنا النصر عليهم، فيردد الحشود آمين، اللهم انتقم من أعوانهم، فيردد الحشود آمين،العجوز: آمين آمين آمين. - هل فات الوقت لأضع دمية فى النعش؟. العجوز: لا، لم يفت الوقت، تسلل وضع ما تشاء فى النعش، ولكن أين الدمية التى تريد أن تضعها؟. - ليس معى دمية، ولكنى أريد واحدة أين أجدها؟. العجوز: لو تعذبت من الدمى لوجدتها بسهولة. - لقد عذبتنى دمى كثيرة، دمية الاعتقال، ودمية إهدار حقوق الإنسان ، أريد أن أضعها فى النعش وأدفنها بيدى. العجوز: تمنى ذلك وستراه يتحقق. - الدمى القديمة توضع فى النعش وتدفن بمجرد التمنى؟ العجوز : نعم ، الحكومة أكدت لنا ذلك. يعلو صوت الحشود فجأة فأدركت أن الجنازة قد بدأت بالتحرك وسمعت أصواتًا تنادى (اسعوا) ، وضع الرجل العجوز يده فى يدى وتركنا أنفسنا لتحركنا الكتل الحاشدة من البشر، قبل الوصول إلى مكان المقبرة بقليل هبت عاصفة ترابية عاتية لا قبل لنا بها ترك العجوز يدى من شدة العاصفة، وأخذ الناس يتمايلون يميناً ويساراً، وفجأة طار غطاء النعش وتطايرت الدمى ووقعت على الأرض ، فأخذ الناس يجمعون الدمى التى وقعت فصعقتهم المفاجأة، حين رأوا دمى غير التى وضعوها ، فالدمى التى كانت فى النعش دمية للحرية ودمية للعدالة الاجتماعية ودمية للحياة الكريمة ودمية للديمقراطية، ودمية لحقوق الإنسان، ودمية للمساواة.