دق جرس الباب، جرى الصغير مسرعاً نحو البلكونة، لم يرَ شيئاً كالعادة، ولكنه سمع صوتاً ينادى أنا "إيمان"، ارتد الطفل عائداً نحو أمه دون أن يحمل لها جواباً، خرجت الأم نظرت إلى أسفل، ولكن شجرة الفناء حجبت عنها الرؤية، وسمعت صوتاً ينادى أنا إيمان أنا "إيمى" أنا هى، ردت الأم قائلة: "أهلا بالجميلة إيمى تعالى إطلعى محمود موجود". سمع محمود صوتها، لم يكد يصدق أذنيه، وكاد أن يغشى عليه من فرط السعادة، فخرج من حمامه مسرعاً، ودارت بخلده الذكريات، واسترجع الأيام الخوالى، وارتسمت أمام عينيه صورة أول من حركت مشاعره وهو طفل صغير، وراح إلى عالمه الأول يتداعى منه ما يحلو له، فرأى نفسه ممسكاً بيدها الصغيرة يمشيان إلى جانب الحقول تريد هى أن تقطف الزهور والبراعم، فيهرول مسرعاً، تغوص قدماه فى الطين حتى يلبى رغبتها، وكلما نظرت إلى أشجار النخيل التقط حجراً من الطوب الأحمر من شط الترعة وبكل عزم يقذف به نحو سباطة البلح حتى تهوى معظمها على الأرض، فيجمعها ويضعها بين يدى محبوبته الصغيرة. استعاد محمود، فى لحظات، سنى السعادة التى مرّ على حرمانه منها أكثر من أربعين عاماً، ووسط نشوة الذكريات أراد الشيطان أن يسرق سعادته ويقتل فرحته بالضربة القاضية، ويلوث أيام الصبابة والوجد التى عاش عليها وبها طوال السنوات الماضية، فألقى اللعين أبا مرة أمام عينيه شريط ذكريات آخر، فذكره بما صنع عندما غلبه شوقه وزاد بداخله لهيب المشاعر، فحاول أن يقبل "إيمى"، كما كان يحلو له تسميتها، بعدما وجدها بين يديه يلتقى قلباهما الصغيران بين كفيهما، وتتلامس أفئدتهما عبر أصابعهما الصغيرة وتغوص عيناه بين عينيها، اللتين عشقهما عشق الحياة، فصار غريقهما لا يجد شطه إلا بين جفنيها ولا راحة له إلا بين رمشيها، وكان يخاف أن يزيح عينيه عنها كما يخاف من الموت، فجاءته اللحظة الشيطانية ولعب الماكر بعقله وأعمى بصره فتجرأ ووضع يده تلك ملتهبة المشاعر فوق شعرها المكسو بسواد الليل وبريق النهار معاً، فنهرته "إيمى" وألم الصدمة يعلو وجهها ويغطى ملامحها الضيق والخجل، ولأول مرة فقدت شعورها بالأمان، وهو معها فنفضت يده من يدها مسرعة، وقالت له: "لا تفسد ما بيننا بفعل صبيانى". فاعتذر محمود من فوره، وظل يندم على تلك الفعلة، ومنذ ذلك اليوم حرمت عيناه من الغوص فى عينيها مرة أخرى، وتاهت يده الطريق إلى يدها، وتوارت عنهما السعادة وغابت عنهما أحلام المستقبل. صعدت "إيمى" درج السلم الرخامى، وتحسست الترابزين، ثم راحت بعيداً خلف السنين، ووقفت عند أول مرة حاولت فيها، وهى صغيرة، أن تتسلق السلم الخشبى الطويل كى تصعد فوق سطح البيت خلف محمود، كى ترى الشارع من أعلى وتقذف الأولاد بحجارتها الصغيرة، كما كان يفعل محمود، وتلعب معه خلف صوامع الذرة والغلال وتبحث عنه، وهو مختفى بين أعواد القطن والحطب والقش، وتذكرت كم كانت سعادتها عندما يُفاجئها بقطعة من الجزر الذى كانت تحبه دائماً، أو كوز ذرة مشوى على الفحم، أو قطعة بطاطة من الفرن، أو كحكة بالسمن البلدى والعجوة. هنا قالت فى نفسها: "كم كانت أياما سعيدة"، وتمنت أن عادت إليها وظلت ساعة الزمن معطلة عن الدوران حتى تظل فيها إلى الأبد وتذكرت خوفها من صعود السلم، وتذكرت يد محمود الممدودة إليها دائما، فكانت هى المرشد والمعلم والمنقذ. صعدت للدور الثانى، حيث يسكن محمود وزوجته وأولاده، وجدت براحاً وسعة، وقفت فى شرفة البيت ونظرت خلفها وراحت تستمتع بمنظر الخضرة والشجر والزرع ومياه الترعة القريبة جداً من البيت، وتاهت مع ذكرياتها من جديد، وفى كل ما تذكرته لم تجد سوى محمود، وهو ممسك بيدها يظلها من حرّ ويدفئها من برد ويحن عليها ويلبى رغبتها ويعطيها الأمان طول الوقت. عادت إلى نفسها مسرعة، بعدما رأت زوجة محمود، حقاً إنها جميلة وبجانبها أطفال غاية فى النقاء، الفرحة تكاد تقفز من وجوههم، قالت لنفسها وألم الحسرة يكاد يقتلها: "كان من الممكن أن يكون هذا البيت بيتى، وهؤلاء الأولاد أولادى، لولا ما حدث لى!". ظل محمود وافقاً حتى تسمرت قدماه، يجاهد نفسه ما بين ذكريات الطفولة والصبا، وما بين زوجته التى يحبها ويخاف أن تلحظ من تغير نفسه شيئاً، فتهوى بها الظنون إلى طريق لا يحبه. قال لنفسه: "لن أخرج للقائها، سأظل بالداخل"، واشتدت حيرته وزاد تردده وقال فى نفسه: "لا.. بل سأقابلها، أريد أن أغوص من جديد فى عينيها، وأستمتع بالسباحة بين جفنيها للمرة الأخيرة، ولو للحظات". خرج هو من حجرته ودخلت هى من باب البيت، وكانت لحظة اللقاء الأول بعدما غابت طلتها عنه منذ أن رآها بين يدى زوج آخر، ظن أنها تريده وتحبه وباعت مشاعره الصادقة بحفنة من المال، فرفع عينيه فى لهفة كى يرى بريق عينيها، الذى حرمته منه الأيام والسنين، فوجده قد اختفى وحلت مكانه لمسة من الحزن وحالة من الأسى، أفقدتها كثيراً من جمالها فى الماضى، فراح يقرأ ما بين عينيها، وهى تجيبه دون أن ينطق هو أو تجيب هى. قرأت هى علامات اللوم والعتاب المؤجل بينهما منذ سنين، فهمست همستها دون أن تتحرك شفاها مخاطبة قلبه، الذى كان يشعر بها قبل أن تشعر هى بنفسها، وقالت: "لا تلومنى، فما قاسيته فى البعد عنك أضنانى، وزادنى ألما، ظنك السوء بى، ولكن الحقيقة، يا حب العمر ويا قلبى المكلوم، مؤلمة، لم أستطع البوح بها طوال السنين، وجئتك اليوم كى تسمعنى، فلقد تزوجت وتركتك حقاً، ولكن ليس حباً فى المال، ولا طمعا فى الجاه، بعيداً عنك، فأنت كنت ومازلت العز والجاه والمال والأنس والراحة والأمان، وكلها أشياء حرمت منها يوم أن غاب عنى طيفك، ويوم أن تفلتت أصابعى من بين يديك، فتاهت بى الدنيا وغابت عنى السعادة. واليوم سأشكو لك همومى وأوجاعى، وسأكشف لك عن أدران نفسى وخوالجها، يا حب الصبا ويا زمنى الضائع ويا روحى المعذبة "لقد هربت منك ومن نفسى بعدما كنت أعيش السعادة، كما يجب أن تكون، وفى ليلة فعلها أبى، ذلك الوحش الكاسر، منزوع الرحمة عديم النخوة فاقد الرجولة والشرف، بعدما داسنى كقطار يسير فى الظلام فقتلنى فى شرفى، فى ليلة اضطربت لها الأرض والسماء، وطربت لها الشياطين وغنت أنشودتها الدنسة، وامتلأت الأزقة والخرابات بأقانين الخمر ولفائف المزة، وهربت الملائكة وتركت الأرض وطارت إلى السماء مستغيثة بربها من فعلة أبى، وهجر الحمام أعشاشه، وناح الغراب ليل نهار، وذبلت الزهور وسقطت فى الطين الورود بعد ليلة ريح عاتية، شرب فيها المدعو أبى حتى أعياه الخمر فأسكره وأعماه، فأفقدنى أعز ما تملك الفتاة، لولا أمى التى استيقظت على صراخى، فانهالت عليه ضرباً، حتى تركنى جثة بلا روح وبلا شرف وبلا عذرية. لم يكن أمامى بد من أهرب من عهد قطعه أبى على نفسه أن يجعلنى أحيا فى جحيم ليل نهار، فارتميت تحت أقدام أول طارق طرق بابى، رجل يكبرنى بعشرين عاماً، وكانت المأساة الكبرى والمصيبة العظمى، بعد أن عرف زوجى العجوز حقيقة ما جرى فى أول ليلة زواج لنا، فحرّم على أهلى زيارتى وحرمنى منهم وحرمنى من حقى فى الحياة، حتى الآن، فعشت بين يديه ذليلة بعد سرى الذى بحت به، أسيرة لمعروفه الذى أهاننى فى كل لحظة بسببه، فراح يشك فى تصرفاتى، يمنع عنى كلمة، ولو فى التليفون، لأى إنسان، وعاملنى معاملة العبيد، وأهمل حقوقى الشرعية، ومنعنى المال وقذف به تحت أقدام الغانيات، فرأيته هو الآخر دنساً فكرهته، كما كرهت أبى، والدنيا بأسرها، وطالما بت فى فراشى البارد، ودموعى تغسلنى، ولا أدرى بأى ذنب قتلنى أبى، ودفننى زوجى فى التراب، والحياة مازالت تدب فى شرايينى". وكانت آلامى تزداد كل يوم، بعدما عجزت أن أحول زوجى لإنسان، ولكنه أبى إلا أن يحيا على الأرض فى ثوب البشر، ولكن بقلب شيطان، فلم أره يوماً صلى فيه ركعة لخالقه أو صام يوماً فى رمضان أو تاقت نفسه لزيارة الكعبة وقبر النبى الرسول الكريم. أرأيت كيف أحيا، ومع من أعيش!، مع خنزير كافر ينكر الألوهية والدين ولا يؤمن إلا بنفسه وإبليس، واليوم هو عاجز مريض حرمنى من كل شىء، وأعمل لديه مجرد خادمة بعض الوقت وممرضة الباقى من عمرى وعمره، وإذا مات لن أرث منه شيئاً، لأنه كتب كل ما يملك لأهله بعد وفاته، فتركته وألقيت عجز الماضى وذل السنين وعدت إليك الآن، بعدما سئمت نفسى الحياة، وتمنيت أن أنتهى إلى قبر الآخرة بدلاً من قبر الدنيا، الذى أحيا فيه ميتة مسفوحة الدماء منزوعة الشرف معدومة الأمل. رأى محمود من بعيد دمعة دافقة تتجمع من بين عينيها، تلونت بلونهما، فحاولت هى أن تحبس دمعتها، ولكنها عجزت كعادتها فى كل شىء، منذ أن تركت يد محمود، فانفرط عقد الدمعة الرقراقة وراحت تتدلى على خديها، فنزع يديه من بين جنبه والتقط أناملها وراحا سوياً إلى عالمهما الصغير خلف الزمن، والتقيا بعد طول غياب فى نشوة الذكريات، فسقطت الدمعة فوق يديه، تحسسها بيده الأخرى ومسح بها عينيه فراحت دموعه تذرف هى الأخرى كمطر شهر طوبة، نسيت آلامها وأنينها وحزنها وعالمها المقيت وعادت إليها البسمة من جديد، وقررا أن يبدأا سويا عهداً جديداً عبر ذكريات الماضى وقررا العودة لزمن الحب الضائع.