حارب الجندى الفرنسى نيكولا شوفان بجانب نابليون بونابرت، وأصيب سبع عشرة مرة، لكنه رغم تكرر إصاباته أصرّ على أن يحارب من أجل مجد فرنسا، ما خلد اسمه كبطل وطنى، واشتق مصطلح شوفينى من اسم عائلته، لتصبح المفردة دلالة على الوطنية الشديدة، ثم تتحول إلى التعصب للوطن. نشأت فى مصر وتشربت كل خلية فى جسدى بحبها، وكنت كملايين المصريين، أعتقد أننا أفضل شعوب العالم، وأجمل الدول مناخا، رغم قيظ الصيف وبرودة الشتاء وعواصف الربيع، مصر علمت العرب جميعاًََ، مصر فضلها على الأفارقة والأمة الإسلامية، وإلى آخر المقومات الفكرية لأى مواطن مصرى، لكن منذ سفرى فى عام 2002 بدأت أصطدم بحقائق؛ هناك أدباء متميزون ولم يزوروا مصر، ومطربون كذلك، ومستوى التعليم فى بعض الدول العربية يفوق نظيره عندنا بسنوات ضوئية، الفساد ونسبة التلوث فى مصر هى الأكبر بين الدول العربية، ولهجتنا ليست الأكثر فهما وانتشارا بين العرب، ومع هذا نتعالى على الآخرين، ونظل نتمسك بخطاب فوقى كريه لا ينطلق إلا من أوهام الماضى العريق. تعلمت فى الاغتراب والسفر المتكرر أن أتخلص من الصورة النمطية عن الإخوة العرب، فليس كل الخليجيين بدو مثلا، فبينهم حضر وبدو، وتجار، وليس كل الشوام تجار بالفطرة، وليس كل العراقيين دمويين، والفلسطينيون لم يبيعوا أرضهم لليهود، والسودانيون ليسوا كسالى، وعرب شمال أفريقيا ليسوا متفرنسين، مفاهيم خاطئة كثيرة تصححت عند احتكاكى بالآخر. اكتشفت كم نحن منغلقون فى الاغتراب، فالمصريون يكونون جيتوهات منغلقة عليهم فى الغربة، فيرتادون المطاعم والمقاهى المصرية، ويحبون التواجد الدائم فى تجمعات سكنية بعينها ويطلقون عليها أسماء مناطق مصرية، بل رغم أنهم يحاربون بعضهم فى العمل، إلا أنك دائما ما تجد المصرى فى الاغتراب يفضل العمل مع مصريين والسكن بجوار مصريين، باختصار ينغلقون على أنفسهم ولا يستفيدون من فرصة التعايش مع ثقافات متنوعة، ثم يصرون على ترديد مفاهيم مغلوطة وصور نمطية عن الآخر، رغم أن الآخر يعيش الآن بجواره ويمكنه أن يسأل ليعرف حقيقته، لكن المصرى فى الغربة لا يفكر إلا فى الادخار وتعليم أبنائه ثم العودة إلى مصر، فيفاجأ برفض أبنائه للواقع المصرى، وتفضيلهم العيش فى الدولة التى نشأوا فيها. قبل الثورة، شغلنى كثيرا البحث عن أسباب شوفينية المصريين، وانغلاقهم على أنفسهم فى مجتمعات الغربة، وتوصلت إلى قناعة أننا ننغلق على أنفسنا ونمارس الفوقية على الآخر، كصورة من الهروب من واقعنا الأليم، فاقتصادنا هزيل أدى إلى تغرب ثمانية ملايين مصرى تقريبا، وسياستنا الخارجية مشينة دفعت البعض إلى حد حرق الأعلام المصرية ومحاولة اقتحام السفارات المصرية فى الخارج، أما عن إنتاجنا العلمى والثقافى فقد تدنى بصورة مرعبة، وسياسيا فأفضل السيناريوهات هو التوريث أو عمرو موسى أو غموض مستقبل أمة تستورد خبزها ولا تملك من أمر نفسها شيئاً. تلك الأسباب وغيرها مخزية جدا للمواطن المصرى المغترب، ولهذا دفعته إلى التقوقع على نفسه والتعامل بفوقية شديدة مع والتباهى فقط بماضٍ مجيد، وكثيرا ما تحدث إلى أشقاء عرب بألم مما يعانوه من الشوفينية المصرية، وكيف أنهم يقدرون دور مصر التاريخى فى مساعدتهم، لكن الحال تغير، وهذه الدول أخرجت أجيالا تسبقنا فى العديد من المجالات، إن لم يكن جميعها، وقال لى أحدهم ذات مرة، إنه ليس من شيم الكرام أن تذكر المتسول بمنتك عليه كلما تلقاه فى الطريق، فقد يردها لك رغم احتياجه لمجرد التخلص من تكرارك لمعايرته بأنك تصدقت عليه، فما بالك بأخيك فى العروبة، ومصر فعلت ما فعلته من واقع دورها آنذاك، ورد لها العرب ما دفعته أضعافا مضاعفة بطرق عدة، لكن للأسف فكل هذا كان يختفى فى سراديب فساد مبارك ورموز حكمه قبل أن يصل للمواطن المصرى. تغيرت عقليتى وطريقة تعاملى مع العرب فى الاغتراب، بدأت أتقبلهم أكثر، وأندمج معهم أكثر، واكتشفت بينهم عشاق لأم الدنيا، وقلة تتفادى الذهاب لمصر، وتكره التعامل مع المصريين كنوع من رد فعل مضاد للشوفينية المصرية المتطرفة فى هجومها وتسفيهها للآخر. قام العملاق من سباته، نفض المواطن المصرى تراب الذل عن أكتافه، خرج طائر العنقاء من رماده وبعث من دفن حيا، فأخيرا ثار المصريون. قبل ساعات من فجر الخامس والعشرين من يناير سألنى صديق مصرى، ونحن نلعب الطاولة على مقهى مصرى، ما توقعاتك ليوم غد، فأجبته دون اكتراث، لا شىء، فاندهش، وأصر على أن هناك دعوات كبيرة على الإنترنت للخروج صباح غد، فجزمت له بأن عشرات سيخرجون ليحاصرهم آلاف من الأمن المركزى فيهتف العشرات قليلا وينصرفون إلى حال سبيلهم أو يتم قمعهم وتفريقهم بينما بقية المصريين يتذمرون من غلق شوارع وسط القاهرة، سيناريو اعتدناه منذ بدأت مظاهرات حركة كفاية. استيقظت على اتصالات كثيرة تخبرنى بما يجرى فى ميدان التحرير فهرعت إلى التليفزيون أشاهد ولا أصدق ما تراه عينى، تخشبت أمام القنوات الإخبارية إلى يوم 30 يناير، وهنا قررت ألا أضيع هذه الفرصة، فالحلم قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وإن ضاع، فلا ألومن إلا نفسى على عدم المشاركة، ووصلت من المطار لميدان التحرير بحقيبة سفرى. لا يمكن وصف المشاعر والهزات الداخلية والرجفات التى تسرى فى بدنى والدموع التى ترقرقت فى عيناى منذ وصلت، وإلى أن هتفت ارفع رأسك فوق أنت مصرى يوم التنحى، فرغم إدراكى أن الهتاف مأخوذ من دولة شقيقة، إلا أننى كنت أردده بكل قوتى ولسان حالى يقول لأبناء وطنى، أشكركم، فاليوم سأرفع رأسى فى الخارج بعدما طأطأتها فى العديد من النقاشات والسجالات، وأنا لا أملك ردا أبرر به أسئلة كثيرة وجهت إلى. رفعت رأسى وغادرت مصر إلى مقر عملى، منتشيا بعبارات التهنئة والاندهاش والاستحسان إلى أن هدأ زخم الثورة، وهنا بدأت مرحلة جديدة. زملاء وأصدقاء كثيرون بعضهم يمزح والآخر يقول جادا، إن ما حدث ليس ثورة، وإنما انقلاب عسكرى، وإن الثورة لم تكتمل، وإنها ستنتج حكماً إسلامياً فى مصر، وأين المبادئ والحريات التى تنادى بها الثورة، إن كنتم فقط تريدون الانتقام من مبارك وعائلته ورموز حكمه، لقد استكثرتم على الرجل حتى خطاب صوتى، فأين حرية الرأى والتعبير التى نادت بها الثورة، يسألون عن الانفلات الأمنى وقمع الجيش وانقسام الثوار، وملل الشارع من التظاهرات، وصعود المتشددين دينيا وغير ذلك كثير. كنت فورا أهاجم من ينتقد، وأنكر عليه ما يقول ولو كان حقائق، وأدخل فى صراعات حادة مع كل من ينتقد أو يجرؤ على طرح سؤال. هل تحولت فجأة، هل الثورة أخرجت عملاق الشوفينية من داخلى، ألا يحق للآخر النقد، أو حتى السخرية، أسئلة كثيرة الإجابة عليها بعقلانية تبعا لما أؤمن به من حريات ومنهج ليبرالى تجعلنى منطقيا أقبل موقف الآخر، لكن لا أستطيع، هناك شىء غامض قابع فى صدرى يجعلنى أضيق بأى شخص غير مؤيد ومستحسن للثورة، عداء ونفور يقفز فى قسمات وجهى تجاه أى سؤال أشتم فيه رائحة نقد أو توجيه دفة الحوار لسيطرة الإسلاميين أو فكرة حكم الجيش. اختلت علاقتى ببعض الأصدقاء غير المصريين، رغم أننى خبرتهم سنوات طويلة، لمجرد أنهم أحيانا يسخرون من الثورة فقط لعلمهم كم يضايقنى هذا، أبتعد عن مخالطة غير المصريين، طالما تمكنت، أتحول تدريجيا لشوفينى مصرى مثالى، كأى نموذج انتقدته سنوات ما قبل الثورة، موقن أنها شوفينية، لأننى أتناقش فى مسائل حكم الإسلاميين وسيطرة الجيش على الثورة يوميا مع أصدقائى المصريين، دون أى حساسية، فلماذا أصاب بحساسية مفرطة تجاه غير المصريين الآن، أناقض نفسى، أحكم على نوايا البشر، وأحجر على أسئلتهم ورأيهم، خطابى مع نفسى به كم مريض من الشوفينية، أتخوف على الثورة ومصر وأرتعب من طأطأة رأسى من جديد.