كانت مفاجأة مدهشة بالنسبة لى ولبعض الأصدقاء، أن نعلم أن شباب الثورة توزعوا فيما يقرب من 150 تجمعًا وتحالفًا وائتلافًا، بل إن الأمر تجاوز الدهشة إلى حد إصابتنا جميعًا بالوجوم. حدث ذلك بعد اطلاعنا يوم 27 من يونيو على مقال المناضل المعروف جورج إسحاق فى «اليوم السابع»، وهو المقال الذى ينعى فيه هذا التشرذم الذى بات عليه الشباب، ثم أتركه مع الصورة المحزنة التى دعته إلى إنهاء مقاله هذا بالتساؤل عما تبقى لشباب الثورة التى دفع ثمنها أرواح مئات الشهداء؟ كما يتساءل عن النفوذ الحقيقى له ومدى قدرته على رسم ملامح هذا الوطن، وهل من مخرج يستعيدون فيه روح الميدان؟ وهو وعد، على أية حال، أنه سوف يحاول الإجابة فى مقال قادم. المهم أننا رحنا ندردش بسبب من يقيننا أن هؤلاء الثوار من الشباب كانوا اجتمعوا كطلائع حول شعار محدد، حيث نادوا بإسقاط النظام، وهو الشعار الذى اجتمعت عليه الجموع ولم تهدأ حتى أسقطت رأس النظام برموزه التى لم يعرف لها مثيلاً، لا من حيث استبدادها وفسادها فقط، بل من حيث تدنيها وقلة قيمتها التى أورثتنا الإحساس بالعار الحقيقى والقرف. لقد سقط النظام ورموزه الكبيرة بالفعل، وهى معجزة يهون من أجلها الكثير. ولكن الثورة لم تكن من أجل هذا فقط ثم يتوكل كل إلى حال سبيله، بل كانت من أجل شعار آخر أصيل هو تحقيق «الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية» وهو الشعار الذى لم يتحقق منه شىء ذو بال، أو ما يمكن التعويل عليه. والآن راح أحدنا يتكلم عن الأجواء العامة التى نعيشها ما بين غموض هائل غير مريح يلف المشهد كله مع احتدام صراعات غير مفهومة تتصرف فيها جماعة وكأن الكعكة باتت فى يدها وانتهى الأمر، فضلاً عن أحزاب قديمة وجماعات من زعامات وهمية تسعى إلى عقد تحالفات مع قوى تظن فيها المغنم، بينما تناثرت فى جنبات هذا المشهد العام مجموعة من أحزاب جديدة جادة قادرة على أن تقيم توازنًا إلا أن أحدًا ليس قادرًا على تبين أسمائها بعد، دعك من التباطؤ الذى نشهده والتكاسل عن اتخاذ إجراءات نحو أوضاع وقضايا لم تكن تستوجب غير الحسم. وانتهينا جميعًا، تقريبًا، إلى القول بأن الأوضاع إذا كانت هكذا، وأن الثورة لم تستوف ما تصبو إليه من تحقيق مطالبها فى الحرية والكرامة والعدل، وهى المطالب المحددة فإن ما يبدو عصيًا على الفهم ويتعذر قبوله تحت أى ذريعة، أن تتعدد الاجتهادات حولها حتى تبلغ المائة والخمسين جماعة مجتهدة (وهى بالمناسبة تساوى مائتى زعيم على الأقل). رحنا نشرب الشاى وندخن، نحن الذين احتلهم التعب وتقدمت بهم الأيام، ونتذكر، هؤلاء الذين قادوا واحدة من الثورات التى تطلّع لها العالم أجمع، من فرط جمالها وبسالتها، باعتبارها مصدر إلهام لا ينضب. ولأننا كنا شبابًا فى وقت ما، فقد ذكرنا التشرذم هذا بأيامنا القديمة، وكيف أن الأذى جاءنا لأن كل واحد فينا كان زعيمًا لا أقل، ولو على خمسة من عباد الله، إنها فضيلة إنكار الذات عندما تغيب. وقد خشينا جميعًا أن أحدًا قد يظن أن الشباب أعطوا ظهورهم للملايين ممن احتضنوهم وصنعوا بهم ملحمتهم العظمى. إلا أنهم، للإنصاف، أعطوا ظهورهم وراحوا يأتلفون ويتحالفون. ويتناقشون. وأنا شخصيًا شديد الإعجاب إذ أرى بعضهم وأسمعهم فى فضائية أو أخرى، وأشعر بمزيد من الزهو أن هؤلاء هم مستقبل الوطن. ولكننا نعرف جيدًا أن اللغة غواية، وهى تصبح كذلك عندما نكتفى بها ونغفل الواقع الذى هو قرين الكلمات. فالكلمة فعل. ليست شيئًا آخر.